نغمة جديدة تسود اسرائيل سياسياً واعلامياً هذه الأيام تتعلق باستئناف التفاوض على المسار السوري، علماً أن هذا الأمر اعتبر حتى وقت قصير من المحرمات، وغالباً ما ترافقت مع الحديث عن المفاوضات جملة من الشروط والمطالب التي «يجب» على سورية تنفيذها قبل الشروع في استئناف التفاوض معها.

بدأ الأمر قبل ثلاثة أسابيع تقريباً مع تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك الذي رحب بمشاركة سورية في لقاء أنابوليس داعياً الى وجوب التعامل معها، مع مصالحها وقيادتها، باحترام، أما رئيس الوزراء ايهود أولمرت فقال خلال مشاركته في اجتماع للجنة الخارجية والأمن في الكنيست الاثنين 12-11-2007: «أريد سلاماً مع سورية، أنا مستعد لمفاوضات من دون شروط مسبقة، وآمل أن يتوقف السوريون في نهاية المحادثات معهم عن ممارسة النشاط الإرهابي، وأن يخرجوا من محور الشر، ولا أعتقد أن هناك اسرائيلياً واحداً مسؤولاً لا يريد ذلك، هناك الكثيرون الذين يتكلمون ولا يفعلون وهناك من يفعلون، ولا يتوجب علي أن أعطي تقريراً عن كل ما أفعله».

في اسرائيل كل شيء يبدأ وينتهي بالأمن، الأجهزة الأمنية دخلت بقوة على خط المسارات التفاوضية في شكل عام، والمسار السوري في شكل خاص. وبحسب الإذاعة العسكرية الإسرائيلية فإن أجهزة الاستخبارات العسكرية والاستخبارات الخارجية: الموساد والأمن العام صاغت في الفترة الأخيرة وثيقة مشتركة تستند على استراتيجية سياسة احتواء في الساحة الفلسطينية واطلالة سياسية مباشرة على المسار السوري. تتضمن الاستراتيجية مواصلة العملية العسكرية وتقليص الإرهاب الى جانب القيام بخطوات اقتصادية لتعزيز مكانة الرئيس محمود عباس. واذا لم يسفر ذلك عن وقف اطلاق الصواريخ ستشن عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة شرط أن توافق القيادة السياسية على زج قوات كبيرة تبقى في القطاع لفترة طويلة.

الموقع الالكتروني لصحيفة «يديعوت أحرونوت» – واي نت – نقل في 12 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عن مصدر عسكري رفيع انه يتوجب على اسرائيل في الذكرى الستين لقيامها أن توجد حدوداً دائمة لها تقف من ورائها جهة واضحة يمكن التوصل معها الى تفاهمات والتوقيع على التزامات ملزمة. في الإمكان التوصل الى مثل هذا الأمر الآن مع سورية فيما ما زال غير ممكن التوصل الى ذلك مع فلسطين، ومن شأن اتفاق سلام مع سورية أن يؤثر بصورة غير مباشرة على الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني أيضاً، لأنه سيؤدي الى انفصال سورية عن ايران وحزب الله وحماس، كما أن سورية تنفي مفاوضات من هذا القبيل لأسباب أهمها استخلاصها العبر من الغارة الإسرائيلية في السادس من أيلول (سبتمبر) الماضي.

الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تميل الى تفضيل المسار السوري أو على الأقل تهيء الأرضية لذلك، في ضوء تصويرها ان فرص تطبيق أي تفاهمات على المسار الفلسطيني معدودة تماماً لأن ليس لدى الرئيس محمود عباس والأجهزة الأمنية التابعة له – من وجهة نظرها – أي قدرة حقيقية على تطبيق أي اتفاق في ظل القطيعة بين قيادة السلطة والجمهور الفلسطيني، كما أن أجهزة الأمن التابعة للسلطة غير قادرة على اعتقال حتى تجار مخدرات وسارقي سيارات.

«يديعون أحرونوت» قالت في 26-11-2007 إن قادة من بينهم رئيس الأركان غابي اشكنازي نصحوا الحكومة في لقاء عقد الأحد في 25-11 بالتفاوض مع الفلسطينيين على اتفاق دائم، وفي حال التوصل اليه تأجيل تنفيذه سنوات حتى تثبت السلطة أنها قادرة على عملية سلام، وبحسب الصحيفة فقد أوصى القادة الأمنيون الحكومة بالمماطلة لأطول وقت ممكن في تطبيق المرحلة الأولى من خريطة الطريق بحجة تمكين الرئيس محمود عباس من زيادة قوته، كذلك طالب القادة حكومتهم بأن تكون بخيلة في منح تسهيلات للفلسطينيين وأن تمتنع عن تسليم مسؤوليات أمنية للسلطة الفلسطينية.

هكذا فإن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مجمعة على عجز الرئيس الفلسطيني والأجهزة الأمنية التابعة له عن تنفيذ أي اتفاق أو تفاهمات قد يتم التوصل اليها. هي بالطبع لا تتحدث عن مسؤولية اسرائيلية ولا تملك الشجاعة للقول إن السياسات الإسرائيلية المتبعة حالياً لن تساعد في التوصل الى اتفاق نهائي.

وغالباً ما تقف التصويرات الأمنية خلف السياسات المتبعة في اسرائيل.

هذا المعطى لا يكفي لفهم خلفيات الالتفاتة الإسرائيلية الجديدة تجاه المسار السوري، وفي هذا السياق يمكن تعداد سلة من الأسباب في مقدمها الموقف الأميركي الذي تغير نسبياً تجاه سورية نتيجة عوامل عدة، أولها لقاء أنابوليس فعوضاً عن الضغط العربي – كما رغب الرئيس بوش – لدعوة سورية الى اللقاء فإن الإدارة الأميركية فهمت أن لا إمكان لتحريك جدي لمفاوضات التسوية في ظل عزل سورية واستيعادها، لأن هذه الأخيرة تملك أدوات يمكنها التأثير سلباً على السياسات والاستراتيجيات الأميركية. وتعرضت إدارة بوش ايضاً لضغوط إقليمية ودولية – تركيا وفرنسا وروسيا – لتغيير موقفها من سورية ودعوتها الى انابوليس على قاعدة طرح ملف الجولان – في إحدى الجلسات الفرعية – على ان يكون الاهتمام الجدي في لقاء دولي خاص بالمسار السوري قد يعقد في موسكو في الربع الأول من العام المقبل.

القيادة الإسرائيلية الضعيفة التقطت مؤشرات الموقف الأميركي وفهمت ان الضوء الأحمر تجاه المفاوضات مع سورية زال لكنه لم يتحول الى أخضر فهو الآن في المرحلة البرتقالية بانتظار تغييرات متوقعة، وعموماً فقد فهم القادة الإسرائيليون ان اميركا لم تعد تمنع فكرة الحديث مع سورية تمهيداً للتفاوض الجدي.

هناك سبب آخر لعودة الحديث عن المسار السوري يتمثل في اللعبة الإسرائيلية التقليدية المسماة لعبة المسارات والتي تهدف حالياً الى ابتزاز الفلسطينيين والتلويح لهم بإمكان تجاهلهم والذهاب باتجاه المسار السوري، وأن التشدد ورفض التنازلات ووصول المفاوضات الى طريق مسدود سيؤدي بإسرائيل الى هجر المسار الفلسطيني. وفي ما يخص سورية فإن لعبة المسارات تتضمن الإيحاء إليها بأن الانخراط في المسار الفلسطيني لا يعني تجاهلها وأنها مطالبة بتقديم بوادر حسن نية وتنازلات جدية لإسرائيل تشجعها على الانتقال الى المسار السوري في شكل رسمي علني.

وهناك تفسير لعودة الحديث عن المسار السوري هو الخلافات الإسرائيلية الداخلية، فوزير الدفاع ايهود باراك صاحب نظرية اللاشريك الفلسطيني – متشجعاً بحزمة من التصويرات الأمنية معظمها صادر عن الأجهزة التابعة لمكتب رئيس الوزراء – الشاباك – الموساد – يحاجج بأن لا فرصة لأي تقدم على المسار الفلسطيني وأن أي حركة لا بد من ان تكون حذرة وهادئة، وطرح باراك في الفترة الأخيرة محاذير أمنية متعلقة بتطوير منظومة مضادة للصواريخ قبل تنفيذ أي انسحابات واسعة من الضفة الغربية، وهذا الأمر يستغرق ما بين ثلاث وخمس سنوات، لذلك يرى باراك أن لا مناص من التوجه الى المسار السوري الذي لا يحمل الدرجة نفسها من العقبات السياسية والإيديولوجية التي يحملها المسار الفلسطيني.

موقف باراك، إضافة الى المعطيات الأخرى، أثر في موقف ايهود أولمرت الذي ما زال يتموضع في المسار الفلسطيني الا انه أبدى بحسب المعلق رون بن شاي استعداداً لتقصي الوضع على المسار السوري كمسار احتياط، لكنه غير مستعد لمفاوضات جدية وملزمة الى ان تتضح الأمور على المسار الفلسطيني، كذلك ينتظر اولمرت حسم الإدارة الأميركية موقفها وإن تحول الضوء البرتقالي الى أخضر من اجل استئناف التفاوض الجاد على المسار السوري، وإلا سيعود الى سابق عهده في رفض أي مفاوضات جدية مع سورية في الوقت الحاضر.

وعموماً يجب أن لا نفاجأ إذا قرر أولمرت حين يلمس ان اقصى ما يمكن ان يقدمه لا يتطابق مع الحد الأدنى الذي يمكن للرئيس محمود عباس ان يقبله، ان يعود الى المسار السوري، على رغم ان لا أولمرت ولا باراك ولا أي من القادة الإسرائيليين يمتلك الشجاعة للتوصل الى سلام عادل وشامل ومتوازن لا على المسار السوري ولا على المسار الفلسطيني، وليس في إمكان لا أولمرت ولا باراك تقديم الحد الأدنى الذي يمكن ان تقبل به القيادة السورية ولا حتى القيادة الفلسطينية التي يجب ان تفهم لعبة المسارات في سياقها الحقيقي والطبيعي كمحاولة للضغط والابتزاز وانتزاع اكبر قدر ممكن من التنازلات على طاولة التفاوض.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)