تبادل الجانبان السوري والإيراني في الأيام الاخيرة سلسلة من الإشارات للدلالة على أن العلاقات بينهما «استراتيجية» وان متانة هذه العلاقات تحتمل اختلافاً في الآراء، ظهر لدى قرار سورية المشاركة في الاجتماع الدولي للسلام في أنابوليس.

وكان آخر هذه الخطوات هو قيام الرئيس بشار الأسد بتدشين مشروعين اقتصاديين إيرانيين بكلفة تصل الى 250 مليون دولار أميركي، أحدهما مصنع لسيارات «سابا» هو الثاني بعد مصنع سيارات «شام» الذي دشن قبل بضعة اشهر. واعتبر الأسد افتتاح المصنعين بحضور مسؤولين إيرانيين «حجراً جديداً يوضع في البناء الكبير للعلاقات الاستراتيجية» وان هذه العلاقات «لن تهتز لأي سبب وتحت أي ظرف».

وكان تردد ان بروداً موقتاً ساد إثر قرار سورية المشاركة في أنابوليس. إذ الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد اتصل بالرئيس الأسد قبل ساعات من اتخاذ القرار ولم تبث «الوكالة السورية للأنباء» (سانا) نبأ الاتصال الهاتفي، غير ان «الوكالة الإيرانية للأنباء» (ارنا) أفادت ان الرئيسين شددا على «دعم الشعب الفلسطيني» و «على ان اتخاذ اي قرار حول المنطقة يعود فقط الى الممثلين الحقيقيين للشعب الفلسطيني» وانهما «بحثا في أهم القضايا الاقليمية والدولية خصوصاً أوضاع فلسطين». وختمت ان الرئيسين «أكدا على فشل اجتماع أنابوليس مسبقاً».

كانت هذه الإشارة الأولى، تبعتها خطوة ثانية تمثلت بمظاهرة أمام مقر السفارة الاردنية في طهران هتف أثناءها بعض المتظاهرين ضد سورية، ذلك على خلفية اعتقاد إيراني ان زيارة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني ساهم خلال زيارته دمشق قبل أسابيع في الحض على المشاركة في الاجتماع. وتزامنت هذه المظاهرة مع تصريحات إيرانية من كبار المسؤولين منتقدة الاجتماع الدولي باعتبار انه «يضيع الحقوق الفلسطينية».

على الأرض، جرت قبل ذلك محاولات إيرانية حثيثة لإقناع قادة المنظمات الفلسطينية بتنظيم «المؤتمر الوطني الفلسطيني» المعارض في طهران، ذلك بعدما نصحت دمشق هؤلاء القادة بـ «تأجيل» الاجتماع الى ما بعد المؤتمر الدولي. وبحسب المعلومات، فإن وزير الخارجية الإيراني منوشهر متقي كان عرض على رئيس المكتب السياسي لـ «حماس» خالد مشعل وزعيم «الجهاد الاسلامي» رمضان عبدالله شلح وباقي الفصائل عقد «المؤتمر الموازي» في طهران مع تقديم دعم مالي، ذلك بعدما قال: «ان هدف المؤتمر (في أنابوليس) هو إيران، ولا بد من إفشاله».

تجددت هذه الدعوة بعد قرار دمشق الذهاب الى أنابوليس. وعندما حسم مشعل وشلح قرارهما بأن «المؤتمر المعارض يعقد في دمشق او لا يعقد في اي مكان آخر»، أخرجت الديبلوماسية الإيرانية اقتراحاً آخر تمثل بتجديد الدعوة لجميع الأمناء العامين للفصائل بالذهاب الى طهران للقاء الرئيس محمود احمدي نجاد.

مرة أخرى، لم يستجب قادة الفصائل لهذه الدعوة. وبحسب المعلومات، فانهم كانوا واضحين في حديثهم مع السفير الإيراني في دمشق حسن اختري او نائبه: ذهابنا الى طهران في هذا التوقيت غير مناسب لسورية ولنا ولكم.

كان الإلحاح الإيراني على الدعوة مفاجئاً، ليس فقط لدمشق بل لقادة المنظمات الفلسطينية الذين يعتقدون بأن التحالفات تعني في جملة ما تعنيه تقدير كل طرف ظروف الحليف الآخر وخصوصاً في المراحل الحرجة. ويعتقد ان قادة هذه المنظمات لم يريدوا إعطاء الانطباع انهم على خلاف مع دمشق او ان يكرسوا الانطباع أمام الرأي العام العربي انهم يدورون في «الفلك الإيراني».

بالنسبة الى دمشق، كان الأمر واضحاً منذ بداية الكلام عن مؤتمر دولي للسلام. وقال الأسد ذلك بأوضح الكلمات في نهاية ايلول (سبتمبر) الماضي: لن تشارك سورية ما لم تكن الجولان على أجندة المؤتمر.

في الأشهر السابقة لأنابوليس، تركزت الاتصالات السورية والعربية والأوروبية في اتجاهين: إقناع دمشق بالمشاركة وإقناع واشنطن بضرورة وضع المسار السوري على الطاولة والحديث عن التسوية الشاملة في الشرق الأوسط.

وكان هناك إجماع عربي إزاء ذلك، تمثل بقرار وزراء الخارجية العرب قبل ايام من انعقاد مؤتمر أنابوليس. بل ان وزراء عرباً اتصلوا بوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس لتحريك المسار السوري على ان يكون أساسياً في مؤتمر المتابعة المقرر في موسكو في بداية العام المقبل.

واستجابت رايس لذلك، وبعثت خطياً جدول أعمال المؤتمر متضمناً جلسة عن «السلام الشامل» وعناوين تتعلق بـ «المسار السوري». كل هذا يعني ظهور مؤشرات الى احتمال مقاربة شاملة ومحاولات لإطلاق عملية سياسية بدعم دولي وعربي بعد سبع سنوات من القطيعة بين إدارة الرئيس جورج بوش وعملية السلام في الشرق الأوسط.

بعد كل ذلك، هل كانت تتوقع طهران الا تحضر دمشق المؤتمر الدولي؟ بحكم علاقة التحالف السياسي، استدعى وزير الخارجية السوري وليد المعلم السفير اختري بعد اتخاذ قرار المشاركة ومشعل كلاً على حده ليشرح خلفيات القرار السوري: الجولان أولوية وطنية لسورية، ولا يمكن قبول أن تغيب عن مؤتمر دولي مخصص للصراع العربي - الإسرائيلي.

يضاف الى ذلك، ان هناك قراراً إجماعياً عربياً وسورية جزء من هذا الإجماع خصوصاً انها تعد العدة لاستضافة القمة العربية في نهاية آذار (مارس) المقبل، ذلك للمرة الأولى منذ الاستقلال. ونجاح القمة يتطلب القيام بمبادرات ووساطات قادرة على الجمع بين المواقف العربية المتناقضة.

ولا يجوز لإيران الاعتقاد ان علاقات سورية العربية وكونها داخل الإجماع العربي يعنيان القطيعة مع طهران. إذ ان دمشق كانت شفافة في اتصالاتها مع الجانب الإيراني في ان وضع الجولان على الطاولة يعني مشاركة سورية في أنابوليس. كما ان نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد قام بزيارة الى طهران لوضع القادة الإيرانيين في نتائج مؤتمر أنابوليس والتأكيد ان اختلاف الآراء ممكن بين الحلفاء والأصدقاء تحت سقف استراتيجية العلاقات.

ويجوز الأمر ذاته بالنسبة الى الفصائل، حيث عاد الكلام يدور في شأن عقد مؤتمر واسع للفصائل تدعى اليه «فتح» في بداية العام الجاري، مع احتمال قيام قادة «حماس» و «الجهاد» بزيارة طهران بعد أيام.

ويمكن العودة الى التاريخ القريب لقراءة الديبلوماسية السورية. لقد انخرطت دمشق في المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي لنحو عشر سنوات خلال عقد التسعينات، كما كانت منخرطة بعمق في «المثلث العربي» مع السعودية ومصر. وكانت في الوقت نفسه توازن علاقاتها مع إيران. اي، ان عقد قمة عربية لا يفترض أن يكون على حساب العلاقة السورية - الإيرانية، كما هي الحال في مشاركة نجاد في قمة مجلس التعاون الخليجي.

لا خلاف في ان الدور الإيراني بات أقوى مما كان عليه سابقاً بحكم سقوط نظام الرئيس صدام حسين في العراق حيث الضفة الغربية لإيران ونظام «طالبان» حيث الضفة الشرقية لـ «الجمهورية الإسلامية الإيرانية».

لكن من الخطأ الاعتقاد، ان دوراً إيرانياً يمكن ان يُلعب في الشرق الأوسط من دون دمشق مركز «القومية العربية» او من دون الفصائل الفلسطينية ورمزية القضية الفلسطينية والصراع مع اسرائيل. ويمكن القول أيضاً ان الدعم السياسي الذي يلقاه من سورية يعزز صورة «حزب الله» كفصيل لبناني وطني وليس مجرد حزب ذي طابع طائفي، مضافاً الى ذلك العلاقة القائمة مع «حزب الله» بحكم الجغرافيا. ان الدور الإيراني هو الآن في حاجة الى ترياق من دمشق للنهل من شرعيتين: عربية وفلسطينية.

نجح التحالف السوري - الإيراني المؤسس في نهاية السبعينات ووقوف دمشق ضد الرئيس صدام حسين في حربه مع طهران في منع تحول الحرب الى عربية - فارسية. يعني ذلك، ان سورية مهمة لإيران في العمق العربي، مثلما إيران مهمة لسورية في التوازن الاستراتيجي. تلك العلاقة التي بدأت لدى اختلال التوازن مع توقيع اتفاقية كامب ديفيد في نهاية السبعينات والقطيعة بين بغداد ودمشق، ازدادت أهميتها في السنوات الاخيرة بفعل التحولات الاستراتيجية في الشرق الأوسط. هذه العلاقة مهمة، كي يكون الفرز في المنطقة سياسياً وليس طائفياً بين سني وشيعي ولا قومياً بين عربي وفارسي او بين معتدل ومتشدد.

هذا استراتيجياً، أما سياسياً فإن الحكومة الإيرانية عقدت في الأشهر الاخيرة سلسلة من اللقاءات مع مسؤولين أميركيين لبحث الأمن في العراق، وستكون هناك جلسة أخرى بعد عيد الأضحى المبارك. وبفضل التنسيق بقيت العلاقات السورية - الإيرانية قائمة في البناء على نقاط التقاطع وبفضل التفهم السوري لإمكانية الاختلاف تحت مظلة التحالف.

وأكثر من ذلك، لدى التمحيص في تفاصيل «الملف العراقي» يبدو الاختلاف الأولي جلياً بين المصالح السورية والمصالح الإيرانية. طهران تريد «هوية إسلامية» وتدعم حكومة نوري المالكي وليست بعيدة من الميليشيات المسلحة ومن دعم الفيديرالية ولا تشارك دمشق القلق ذاته من احتمالات تقسيم العراق. لكن سورية تدعو الى «الهوية العربية» والى المصالحة وإعادة النظر في الدستور و «قانون اجتثاث البعث» وبناء جيش وقوى أمنية على أسس وطنية بالتزامن مع تفكيك الميليشيات.

استطراداً، يمكن القول انه بعدما كانت فكرة احتلال القوات المتعددة الجنسية للعراق وانتشار أكثر من 150 ألف جندي أميركي مصدر جمع بين دمشق وطهران خصوصاً عندما كان المحافظون الجدد في واشنطن يتحدثون عن «تغيير النظام» في سورية وإيران، فان نقاط التقاطع ظهرت بين دمشق وأنقرة إزاء الملف العراقي وتفاصيله والمخاوف من التقسيم والدعوة الى جدولة انسحاب القوات المتعددة الجنسية بين مطالب إيران بـ «الانسحاب الفوري» وقلق أطراف عربية من سعيها لـ «ملء الفراغ»، وبين دعوة سورية الى تزامن جدول الانسحاب مع بناء القوات المسلحة والأمنية في العراق للحيلولة دون حصول فراغ.

ومع ذلك، بفضل التنسيق وجدت دمشق نقاط تقاطع مع «الحليف الاستراتيجي» الإيراني» ومع «الحليف الجديد» التركي حيث كان واضحاً ان حكومة رجب طيب أردوغان كانت تبذل قصارى جهودها في السنوات الثلاث لكسر العزلة عن دمشق وكانت تعزز خيار الاعتدال وخفض التوتر عبر نقل رسائل وبذل جهود بين سورية وإسرائيل للدفع باتجاه تهيئة الأرضية لاستئناف مفاوضات السلام لاستعادة الجولان.

يجوز القول ان صورة التحالفات الاقليمية تمر في مرحلة اهتزاز وتختلف عما كانت عليه في السنوات الثلاث السابقة. والتبصر في العوامل السابقة، يساهم في إعادة صوغها على أسس تعزز العلاقة بين دمشق وطهران على اساس التحالف المتوازن عبر الإقرار ان العلاقة بين الحلفاء لا تعني التطابق في السياسات بل التقاطع في المصالح.

بالتالي، يمكن لسورية ان تكون صديقاً لإيران وان تسعى في الوقت نفسه لاستعادة الجولان وان تبقى في مكانها السياسي الطبيعي على الخريطة العربية، وان تكون «حماس» صديقة لطهران وتحافظ على العمق العربي للقضية الفلسطينية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)