انعقدت القمة الأوروبية الأفريقية في لشبونة عاصمة البرتغال مطلع الأسبوع الماضي، ولم تسفر القمة في المحصلة عن نتائج ملموسة، وكل ما خلصت إليه مزيد من الكلام والعبارات الفخمة والمجاملة السياسية بين الطرفين الأوروبي والأفريقي تضمنها الميثاق الصادر عن المؤتمر، كالأحاديث عن المساواة والندية والمصالح المشتركة وتطوير العلاقات متعددة الجوانب بين الطرفين وبين دولهما.

وقد صرح خوزيه سقراطيس رئيس وزراء البرتغال بحماس ظاهر قائلاً إن المؤتمر يشكل بداية عصر جديد في العلاقات بين الطرفين وإن القمة هي (قمة مساواة) و (نحن متساوون في الكرامة الإنسانية)، وتم في نهاية الأمر التوقيع على الميثاق الذي يدعو إلى الديمقراطية والتجارة الحرة ويتعرض لقضايا الأمن والهجرة والتنمية والحكم الصالح.

وهذه أهداف سامية دون شك وهامة للطرفين لكنها طموحة جداً وفضفاضة ولم تترافق مع توقيع اتفاقات شراكة فردية أو جماعية، لذلك فمن المتوقع أن تبقى حبراً على ورق. شأنها شأن مؤتمر القمة الأوروبي الإفريقي الأول الذي انعقد في القاهرة عام (2000) بدون نتائج ملموسة. وسيكون مؤتمر لشبونة في الغالب الأعم شبيهاً بمؤتمر القاهرة يشكل إطاراً عاماً ومنطلقات نوايا حسنة لا تجد مرتسماً لها في حيز الواقع.

تتنافس جهات ثلاث هذه الأيام على كسب ود إفريقيا هي أوروبا والولايات المتحدة والصين، وقد كان هذا التنافس قبل عشر سنوات أميركياً أوروبياً فقط أي بين المستعمر القديم (الدول الأوروبية) والطامع الجديد أي الولايات المتحدة التي استطاعت أن تجبر الأوروبيين على التراجع لصالحها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً في معظم بلدان إفريقيا حتى إنها سحبت البساط من تحت أقدام أوروبا في مستعمراتها الأثيرة إلى نفسها والأكثر قرباً منها كما هو حال بعض بلدان إفريقيا العربية والفرانكوفونية والانكلوفونية.

وتسللت الولايات المتحدة إلى مفاصل الحياة الأفريقية السياسية والاقتصادية والعسكرية وذلك كله على حساب الدول الأوروبية، وهكذا كان التنافس ثنائياً من جهة وصامتاً من جهة أخرى باعتباره تنافساً بين حلفاء، إلى أن دخلت الصين إلى إفريقيا منذ مطلع القرن الحالي فقلبت المعايير وضاعفت الخوف الأوروبي والأميركي من نفوذها، وخشي الطرفان من خسارة إفريقيا نظراً للتواجد الصيني المتنامي فيها والذي فاق كل تصور، وقلب معايير العلاقات وكشف تقاعس الأوروبيين والأميركيين في مجال مساعدة إفريقيا وإثبات صدقهم لدى دولها.

أقامت الصين شراكة حقيقية مع بلدان إفريقيا عبرت عن نفسها في مجالات ثلاثة:

المجال الأول هو عقد اتفاقات تجارية مع (41) بلداً أفريقياً، ولذلك تضاعف التبادل التجاري بين الصين والدول الأفريقية بنسب فلكية، فبينما كان حجم هذا التبادل (12) مليون دولار عام (1956) بلغ (5 ,55) مليار دولار عام 2006 ووصلت صادرات الصين إلى هذه الدول حوالي (7 ,26) مليار دولار عام 2005، ووارداتها (8 ,28) مليار دولار.

ومن المتوقع أن يبلغ حجم هذا التبادل بين الطرفين (100) مليار دولار عام (2010)، وقد أعفت الصين منتجات أفريقية من الرسوم الجمركية تنتمي إلى (190) فئة ضريبية في (28) بلداً أفريقياً.

أما المجال الثاني فهو الاستثمار، حيث بلغت استثمارات الصين (7 ,11) مليار دولار في (49) بلداً إفريقيا عام 2006، وتوزعت هذه الاستثمارات على التصنيع والمواصلات والنقل والزراعة والبتروكيماويات والكهرباء والاتصالات والري والتعدين والسكك الحديدية وغيرها.

فبنت مثلاً (6000) كم من الطرق و (3000) كم من السكك الحديدية و (8) محطات كهرباء ونفذت بالإجمال حوالي (700) مشروع خلال السنوات السبع الماضية، فضلاً عن إلغاء بعض الديون وتقديم قروض ميسرة، وركزت على تطوير استثمار النفط والنحاس والبوكسيت والمغنزيوم واليورانيوم والحديد وغيرها من المواد الأولية.

أما المجال الثالث فهو أن السياسية الصينية في إفريقيا بقيت ضمن بعد واحد هو البعد الاقتصادي، فقد أكدت على سيادة بلدان إفريقيا واحترمت هذه السيادة، ولم تهتم بأساليب الحكم القائمة ولا بمدى تطبيق حقوق الإنسان وأظهرت تعاطفها مع هذه الدول في كل مناسبة، وفي الخلاصة كانت صديقة وداعمة للقضايا الأفريقية وللأنظمة السياسية القائمة.

أما السياسة الأوروبية تجاه إفريقيا فقد اهتمت بتحديد الهجرة إلى أوروبا وبشؤون البيئة وحقوق الإنسان وبضرورة إقامة الإصلاحات السياسية وهذه جميعها لا تلقى ترحيباً من معظم الأنظمة السياسية الأفريقية.

وبالمقابل تقاعست أوروبا في الوفاء بالتزاماتها الأخرى، فلم تخفف الضرائب على البضائع الأفريقية المستوردة ولا الدعم على المواد المصنعة الأوروبية المصدرة إليها ولم تطبق حتى أنظمة التجارة الحرة، ووضعت شروطاً عديدة على أساليب صرف المنح الأوروبية.

بحيث لم يستطع بلد أفريقي واحد صرف هذه المنح بكاملها أمام الشروط السياسية وغير السياسية المفروضة على صرفها، وهكذا اكتسحت الصين إفريقيا وتراجعت أوروبا، ولم يستطع مؤتمر لشبونة إصلاح نقاط الخلل والضعف القائمة في العلاقات بين الطرفين.

أما الطرف الثالث ذو النفوذ في إفريقيا أي الولايات المتحدة الأميركية فهي كعادتها اهتمت بالدرجة الأولى بجوانب التعاون العسكري، فأقامت قواعد عسكرية وأجرت مناورات عسكرية بالشراكة مع معظم البلدان الأفريقية.

واكتفت بما تحصله من مكاسب تجارية واستثمارية بالضغط والهيمنة على حساب أوروبا (وهو ليس بالقليل) واتجهت في السنوات الأخيرة أمام التمدد الصيني إلى عقد تحالفات واتفاقيات تنسيق مع أوروبا في أفريقيا، واكتفت بإيجاد شروط موضوعية ليكون ضغطها مجدياً على الدول الأفريقية.

لقد تراجع النفوذ الأوروبي السياسي والاقتصادي على البلدان الأفريقية أمام شدة النفوذ الأميركي واتساع التواجد الصيني، ومن المتوقع أن يكون الدور الأوروبي ثالثاً في إفريقيا بعد الدور الأميركي والصيني وأن يفقد أولويته خلال فترة قريبة، ولا يستطيع الأوروبيون لأسباب موضوعية أن ينافسوا النفوذ الاقتصادي الصيني المتنامي في إفريقيا والسياسة الأميركية الضاغطة.

ولذلك كان ميثاق لشبونة الأوروبي الأفريقي يحتوي على عبارات كلامية كبيرة وواعدة ترضي الغرور الأوروبي دون أن يكون لها أي منعكس واقعي على الأرض، ودون أن يقنع الأفارقة أن البلدان الأوروبية بديل مناسب عن الصين أو على الأقل بديل مناسب يغري بالعمل على تخفيف سرعة التعاون معها أو تقليل حجمه.

ولايكفي كون معظم البلدان الأفريقية تتحدث الإنكليزية أو الفرنسية أو كونها مستعمرات سابقة للتعويض عن دفق التعاون الصيني الاقتصادي الذي لا يهتم بأنماط نظم الحكم ولا أساليب عملها ولا يتدخل في شؤونها الداخلية ويضاعف حجم التبادل التجاري وحجم الاستثمارات سنوياً.

مصادر
البيان (الإمارات العربية المتحدة)