مفاوضات ما بعد آنابوليس انتهت إلى أن يصفها الإسرائيليون بأنها "متوترة"، وهذه المتوترة التي يقودها هذه الأيام كلٍ من تسيبي ليفني وأحمد قريع، يقول في حقها حتى كبير مفاوضي سلطة الحكم الذاتي الإداري الفلسطيني المحدود صائب عريقات إنها انفضت دون مجرد الاتفاق على موعد اللقاء مجدداً... إنه لا مفاجأة، إذا ما عدنا إلى ما تمخضت عنه زوبعة آنابوليس... ولا غرابة، وما أراده الإسرائيليون منها، ناهيك عن ما أراده الأمريكان من جانبهم، كان بيّنا ولم يكتموه، لخصته تسيبي ليفني نفسها، وهي تقدم جردة حساب لمتطرفي الكنيست، قالت:

"إن إسرائيل أصرّت على حضور الدول العربية لسببين: الأول ، حتى تدعم أبو مازن في تنازلاته، لأنه لا يوجد قائد فلسطيني يستطيع تقديم التنازلات من دون دعم عربي، والثاني، لرص صف الدول المعتدلة في المنطقة ضد الخطر الأكبر الذي يتهددها وهو إيران"!

والآن، وقد كان ما كان في آنابوليس، فإن الهدف الثاني لتسيبي ليفني، وفق تطورات ما بعد القمة الخليجية الأخيرة، لا تشي بثمة ما يوحي بحظٍٍ له في التحقق. لا نقول هذا استناداً على ما عنته دعوة الرئيس الإيراني لحضور القمة، أو دعوته لاحقاً لإدعاء فريضة الحج فحسب، وإنما لأن العرب معتدليهم قبل ممانعيهم قالوا ضمناً، وبأصواتٍ اختلفت درجات ارتفاعها، وتصرفوا كلٍ قدر مستطاعه، بما أسمع وأفهم الإدارة الأمريكية أنهم ليسوا في وارد اعتبار الجار الإيراني عدواً، ولا يرغبون في تحويل أوطانهم وقوداً وممراً لآخر حروب الإدارة الأمريكية الراهنة في الشهور العجاف من العام اليتيم الوحيد المتبقي لها على رأس الإمبراطورية الهوجاء التي بلغت قمة بطرها الدموي وبدأ بحق العد العكسي لتراجع هيبتها المتآكلة... حماقة الغطرسة وصفاقة البلطجة كشفتا عن مكنون هذا التآكل، وسرّعت محدودية قدرة القوة العمياء من استشراء آفته... هذا التآكل المنسجم مع السيرورة التاريخية أو حتمية اندثار الإمبراطوريات... وعليه، وعلى ضوء هذا، ألا يجوز لنا قراءة تقرير طائفة أجهزة الاستخبارات الأمريكية الستة عشرة مجتمعة حول الملف النووي الإيراني؟! ...كنا قد عالجنا هذا الأمر في مقالنا السابق.

إذن، بقي لليفني هدفها الأول، وهو ابتزاز ما أمكن من التنازلات من مفاوضي الطرف المقابل المستفرد به، المعلق آماله التسووية على أحلام ما بعد آنابوليس... ففي هذا المابعد، كانت أول خطوة أعقبت انفضاض المولد، هي مسارعة الإسرائيليين لنسف الجدول الزمني الذي حدده محفل آنابوليس لنهاية المفاوضات بين الطرفين المقرر أن لا يتجاوز نهاية العام 2008. وكانت الثانية، هي الإعلان عن طرح مناقصة لبناء 308 وحدة سكنية في مستعمرة جبل أبو غنيم في منطقة القدس المحتلة... نسفت إسرائيل سلفاً الآمال أو قل الأوهام المعلقة على جدوى مثل هذه المفاوضات، أو هي أجهزت على مرجعيتها الوحيدة، التي استبدلتها آنابوليس بالمرجعيات الأخرى السابقة المرحومة... تلك التي تبدأ بالشرعية الدولية، مروراً بجكاية الأرض مقابل السلام... مدريد، أوسلو، وتوابعهما في شرم الشيخ... وانتهاءً بالمبادرة العربية التي لم تعتمد يوماً... أجهزت على الفقيدة الأخيرة خارطة الطريق!

هذا الكلام ليس من عندنا، إنه بعض ما قاله مفاوضو السلطة أنفسهم، الذين اعتبروا توسعة مستمرة جبل أبو غنيم "انتهاكاً فاضحاً" لكل ما تم في آنابوليس، ولخطة خارطة الطريق... هذه التي لا زال الإسرائيليون يطالبون بتنفيذ بندها الأول لا غير، أي المعني بإشعال الحرب الأهلية الفلسطينية!
يقول أحمد قريع، الذي يعد، كما هو معروف، واحداً من اثنين قادا الطرف الفلسطيني في المفاوضات التي تمخضت عنها المسيرة الأوسلوية، ومن يقود راهن المفاوضات مع تسيبي ليفني، يقول مستهجناً:

"أن يأتوا الآن، مباشرة بعد مؤتمر آنابوليس، ليقولوا أنهم يبنون 307 وحدات استيطانية في أبو غنيم، هي رسالة واضحة أن الإسرائيليين لا يريدون التفاوض وإن مشروعهم هو الاستيطان"... ويكمل: "نحث الإدارة الأمريكية، وهي الحكم، على أن تعبّر عن موقفها"!
أن يتوقف أبو علاء، ولو مرة، أمام مثل هذه الرسالة الإسرائيلية الواضحة أمر جيد، لكن أن يحث "الحكم الأمريكي" على التعبير عن موقفه منها ففي هذا بعض العجب... لقد عبرت كونداليسا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية عن موقف بلادها هذا بهذه العبارة: إنه، أي توسعة المستعمرات، "أمر لا يساعد على بناء الثقة"!!!

جاء الرد الإسرائيلي على أبو علاء وكونداليسا رايس بسرعة ودفعة واحدة... جاء هذا في تصريح جامع مانع لوزير الشؤون الاستراتيجية، أفيغدور ليبرمان، الذي جال في موقع جبل أبو غنيم يستحث العمل على إنجاز عملية التوسعة للمستعمرة:
إنه "يتعيّن أن أصحح لوزارة الخارجية (الأمريكية)، أنهم يتحدثون عن 300 وحدة سكنية في هارحوما، لكن ثمة ثلاثة آلاف على الطريق"!!!

ويضيف، وكأنما هذا الكلام هو موجه إلى أبو علاء تحديداً: إن "مخطط البناء في المستوطنة أقرّ من قبل حكومة إسحاق رابين حين كان إيهود أولمرت رئيساً للبلدية"!!!

إذن المسألة، وفق ما تقدم، هي ليست مسألة مفاوضات بالنسبة للإسرائيليين، وإنما هي جولات استدراجية مدروسة يستغل القوي فيها الظرف الدولي والعربي والفلسطيني المناسب له، المعبر عنه اختلالاً دراماتيكياً في موازين القوى بشكل أقرب إلى السوريالية، لابتزاز المزيد من التنازلات من الضعيف المستفرد به فيها، الذي حاله حال من يبذر أوراقه على قارعة الطريق المفضي إلى الهاوية... والمسألة، أيضاً، هي وليست مجرد توسعة مستعمرات وإنما هي استراتيجية تهويد لما تبقى من فلسطين تطبق حرفياً، إذ ليس من باب الصدف أن نسمع ما نسمع اليوم على لسان ترانسفيري شهير مثل ليبرمان، هذا الذي حان زمنه فبرز دوره في هذا السياق...

يقول آخر، مثل أفي ديختر، وزير الأمن الإسرائيلي، الفار من لندن مؤخراً، بعد أن حذّره أصدقاؤه في 10 داوننغ ستريت، من أن يحاكم هناك لارتكابه جرائم حرب وفق القانون البريطاني الذي لا يملكون منعه:

إن "العرب في القدس الشرقية يعيشون في عالمين مختلفين، لكنهم موالون فقط للعالم الفلسطيني، وهذا أمر إشكالي للغاية بالنسبة إلينا من وجهة النظر الإجرامية والإرهابية"!
الإسرائيليون اليوم يجدون فرصتهم الأخيرة لقول ما يريدونه جهراً، وأن يفعلوا ما يفعلونه دون خشية من رقيب أو حسيب... الفرصة المناسبة نظراً لهذا الخلل الذي أشرنا إليه آنفاً... ونقول الفرصة الأخيرة، لأن الإمبراطورية الراعية لما يريدون ويفعلون قد بدأت سطوتها تنثلم وهيبتها تبهت وغدت في حال ينبئ تخبطه بالأفوال...

مالذي أنسب لهم أكثر من تليد الهوس الغربي المتعلق بالحرص على أمنهم، الذي آخر ما ينم عن رسوخه هو آخر ما كشف من مستور قديم التعاون النووي بين واشنطن وتل أبيب إبان عهد نيكسون، وهذا النفاق الكوني المتستر على جرائمهم، لا سيما ما يلحقونه هذه الأيام بغزة من دمار وتنكيل في حرب استنزاف لم تتوقف، إذ لم تبدأ بتهديدات وزير الحرب باراك، ورئيس الأركان الجنرال أشكنازي صاحب استراتيجية "الإضرار التراكمية" ضد الفلسطينيين، ومعهما قائد الجبهة الجنوبية الجنرال غالانت... الغرب المتستر على أفظع حصار تحويعي يرتقى لدرجة الإبادة الجماعية المدروسة، ومصحوباً بالاختراقات والتصفيات والاغتيالات، والذي، مع ما يوازنه، يفوق في تداعياته اللاإنسانية كل ما عرف من جرائم الحرب في تاريخ البشرية... حرص على تثبيت مدللتهم مركزاً رئيساً في المنطقة، وفرض التطبيع معها... تطبيع كهدف يفرض، من آخر تجليات نشدانه تصريح وزير خارجية فرنسا الذي يقول فيه موجهاً كلامه للحالمين بمتوسطية ساركوزي الموعودة: لا اتحاد متوسطي بلا إسرائيل "لا يمكننا تصور ذلك"!
...وآخر تداعياته، استقبال بيريز لوفد وصف الإسرائيليون أعضاءه بأنهم قادة مسلمون أندونيسيّون يزورون هذه الأيام إسرائيل، ويلتقونه بهدف إطلاعه على "الوجه الآخر للإسلام المعتدل"!

لن يتوقّف الحديث قريباً عن آنابوليس ولا عن المرحومة خارطة الطريق... وسيظل الكلام على وجوب التفاوض للبدء بالخطوة الأولى في رحلة الآلف ميل في متاهة ملحمة التفاوض... سنسمع هذا، حتى بعد وصول الرئيس بوش نهاية هذا العام إلى المنطقة لتشجيع هذا التفاوض... لعلّها الزيارة الوداعيّة الباحثة عن إنجاز قبل أزوف الرحيل عن البيت الأبيض... قبل قدومه الميمون، وصل إلى تل أبيب الأميرال مايك مولن، رئيس هيئة الأركان الأمريكيّة المشتركة... من بين ما بحثه مع مضيفيه وفق ما قالوا، هو: "استعداد إسرائيل لخوض حرب على جبهات عديدة"!!!