لا شكّ في أنّ الرئيس الأميركي جورج بوش هو ملك «زلّات اللسان» والأخطاء الكلاميّة التي لا يجيدها سواه. لكن هل يمكن القول إنّ إشارته إلى أنّ الرئيس السوري بشّار الأسد لا يزال يسمح للمقاتلين «الإرهابيّين» والسلاح بالمرور عبر الحدود السوريّة إلى العراق، في مؤتمره الصحافي في البيت الأبيض يوم الخميس الماضي، كانت «لحظة غضب»، أو إنه فعلاً هدف إلى قلب الطاولة رأساً على عقب على «شهر العسل» الذي تعيشه العلاقات العراقيّة ـــــ السوريّة منذ أسابيع؟

قد يكون سبب عدم توقّف المراقبين بما يكفي عند هذه الملاحظة، يعود إلى أنّ كلامه عن الأزمة الرئاسية في لبنان، خطف الأضواء، وخصوصاً أن بوش أطلق صاروخاً سياسياً عندما دعا حلفاءه في الأكثرية النيابية اللبنانية إلى الذهاب في خيار انتخاب رئيس بالغالبية العادية، أي بالنصف زائداً واحداً، وهي دعوة تُعدّ مفصلية في الأزمة المستفحلة في بيروت، إذا ما استُجيب لها.

إنّ السير بنظرية أنّ حديث بوش عن الحدود السورية ـــــ العراقية جاء فقط ليزيد من الحجج التي تبرّر له «ضيق ذرعه» بالأسد، شيء، والتوقّف مليّاً عند هذا الكلام شيء آخر، وخصوصاً أنّ الانتقادات الأميركية تجاه سوريا في ما يتعلّق بدعم «الإرهاب» في العراق، خفّت حتى الاختفاء طيلة الأشهر الأربعة الأخيرة، أي تقريباً منذ أن بدأت الأوضاع الأمنية تستقرّ نسبيّاً ونوعيّاً في بلاد الرافدين، وبالتحديد في العاصمة بغداد، مسرح «خطّة فرض القانون».

في هذا السياق، تنقسم الآراء. بعضها يرى أنّ الهدف المطلوب قنصه هو دور سوريا في لبنان حصراً، بعدما أضحت التسوية المعروضة التي تدعمها دمشق، أشبه بخسارة كاملة لحلفاء واشنطن وتسليماً بسيطرة المعارضة اللبنانية على البلاد.

لكن رغم أنّ الأكيد هو بقاء الهمّ اللبناني في مقدمة الأولويات في حسابات الإدارة المحافظة في واشنطن، إلّا أنّ إطلاق النار من جانب بوش على سوريا عراقيّاًَ، لا يمكن أن يكون قد ورد عرضيّاً، أو مواربة. ولو كان كذلك، لكان بوش قد تحدث مباشرة، أو على الأقل، كلّف نفسه عناء التذكير بأنّ سوريا لا تزال مصرّة على «حلفها المقدّس» مع إيران عاصمة «محور الشر»، علماً بأنّ هناك من يرى أن الرئيس الأميركي تقصّد عدم التطرّق إلى إيران بسبب «كابوس» التقرير الاستخباري الأميركي الأخير الذي أكّد أن طهران أوقفت العمل في برنامجها النووي العسكري منذ عام 2003.

ولم يعد سرّاً أنّ واشنطن توسّلت في سبيل ضبط الأوضاع الأمنية في العراق، أساليب متعدّدة، أبرزها كان الاتّكال على «اللجان الشعبية» و«مجالس الصحوة». هذا أكثر ما يجري التركيز عليه إعلاميّاً وسياسيّاً. لكن هناك جانباً كشف عنه أبرز حلفاء واشنطن في عراق ما قبل وما بعد سقوط صدام حسين، رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي بشأن مفاوضات طويلة قادتها، ولا تزال، قيادات عسكريّة وسياسيّة أميركيّة في عمّان والعقبة ودول عربية أخرى (بمعاونة الحكومات العراقيّة المتعاقبة منذ 2003)، مع قيادات تنظيمات عراقيّة مسلّحة، معظمها ينتمي إلى حزب البعث العراقي، ومعظم قياداتها يتّخذ من دمشق مقراً له.

لم ينفِ أي مصدر أميركي رسمي الخبر، كذلك لم تفعل حكومة بغداد، وخصوصاً أنّ مفاوضة البعثيّين السابقين باتت سياسة مقوننة في تعديل قانون «اجتثاث البعث». أمام هذا الواقع، يمكن القول إنّ المعلومة شبه أكيدة، وإن هذه الفصائل المسلّحة هي «ورقة» سياسية شديدة الأهمّية في علاقة واشنطن بدمشق.

وعلى هذا الأساس، يمكن التذكير بأحداث مرّت مرور الكرام، كإلغاء اجتماع موسَّع جدّاً كان سيُعقد في أيلول الماضي في سوريا لعشرات التنظيمات العراقية المسلّحة. حينها، أعلن عدد من مسؤولي هذه الفصائل (طبعاً من دون الكشف عن هوياتهم)، أنّ إلغاء الاجتماع جاء بقرار من السلطات السورية... وهو ما يذكّر أيضاً بإلغاء مؤتمر للفصائل الفلسطينية غير المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية (حماس والجهاد الإسلامي خصوصاً) كان مقرّراً له أن يكون مؤتمراً بديلاً من مؤتمر أنابوليس.

وخلف إلغاء المؤتمرين، كان من الواضح أن أسباباً موجبة متشابهة أدّت إلى ذلك. فواقعية النظام السوري كفيلة بجعله يفتح «الحنفيّة» لكلّ ما يزعج الأميركيين في المنطقة (ومن يقول الأميركيّين يقول الإسرائيليين عموماً)، أو يغلقها حين يرى مصلحة في ذلك، أو بكلام آخر حين تفرض ذلك مفاوضات تجري مباشرة أو بالواسطة بينه وبين الأميركيّين.

وهكذا، يبدو أن لحديث بوش الأخير عن استمرار تدفّق «الإرهاب» عبر حدود سوريا إلى العراق، أسباباً تتعلّق مباشرة بفشل المفاوضات مع التنظيمات العراقيّة المقاومة المقرّبة من سوريا، ولا علاقة لا للبنان ولا لفلسطين به.