شأن الأعوام السابقة، ترك عام 2007 بَـصماته الواضحة على العالم العربي. فمن جهة، تفاقمت الأزمات العربية، ومن جهة أخرى، خفَـت الحديث عن الإصلاح السياسى وزادت الأزمات الاجتماعية العربية ضراوة.

والتَـبست تطورات عديدة على الفهم وبدت المنطقة العربية بأسرها، كمن يبحث عن دليل ومُـرشد لمواجهة أعباء العام الجديد المقبل حتما.

كعادة السنوات السابقة، جذبت تطورات القضية الفلسطينية الأنظار. فعلى وقع الشدّ والجذب بين الرئاسة الفلسطينية وحكومة حماس من جهة، والحصار الدولي المضروب على الأراضي الفلسطينية من جهة أخرى، والضربات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، تشكَّـلت معادلة ثُـلاثية جمعت بين المحلي والخارجي، وشكَّـلت بدورها محور التحركات المرتبطة بالقضية الفلسطينية ككل، وذلك قبل أن تقرر الولايات المتحدة استثمار الانقسامات الفلسطينية من أجل الدفع نحو نوع من المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، بهدف تشكيل حقائق جديدة في المنطقة قد تُـساعد على تسويةِ ما للقضية الفلسطينية.

وكانت كل من القاهرة والرياض وسوريا وإيران قد تدخلت بشكل أو بآخر في المعادلات الفلسطينية، منها تدخُّـلات سعَـت إلى تحقيق نوع من الوِفاق الوطني الفلسطيني، والتي لم يُـقدَّر لها النجاح.

وشكَّـلت جهود الوفد الأمني المصري والدعوة السعودية لعقد لقاء فى مكَّـة، أبرز محطات التوافق الفلسطينى، الذي لم يدم طويلا، حيث ثبت يقينا أن ما بين حركتي فتح وحماس من مُـنافسات شخصية وصراعات فكرية وسياسية، هو العامل الأقوى والأكثر تأثيرا، إذ سرعان ما انهار اتفاق مكَّـة، رغم التعهُّـدات الفلسطينية، التي أعلنت لغرض بإنجاحه.

ارتبط انهيار اتِّـفاق مكَّـة بعودة القتال في قطاع غزة بين حماس والقوات الأمنية، التابعة للسلطة والمحسوبة على فتح في آن واحد، وهو الذي انتهى منتصف شهر يونيو بهزيمة السلطة وانفراد حماس بالسيطرة على القطاع.

الصدمة

وشكَّـلت النتيجة صدمة للكثيرين، فلسطينيين وعرب وإسرائيليين وأمريكيين، وكل من يرى في سيطرة قُـوة إسلامية على الحُـكم في بقعة عربية، نوعا من التحدي غير المقبول والذي يجب إجهاضه بأي شكل كان، وهو ما تضافرت من أجله الجهود لمزيد من محاصرة حماس وكل من يناصرها، وأيضا الذين شاء حظّـهم أن يقعوا تحت سيطرتها فى القطاع، في الآن نفسه، فتح أبواب المساندة الاقتصادية والسياسية للسلطة ورئيسها محمود عباس.

كان ولا زال من جوانب الصَّـدمة أن انفصَـل القطاع عمَـليا عن الضفة، وبدت هناك سلطتان فلسطينيان وتوقفت المؤسسات عن العمل، لاسيما المؤسسة التشريعية، الأمر الذي شَّـل واقعا فلسطينيا جديدا، دعا الولايات المتحدة أن تبذل جهدها لإحياء المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، فكانت دعوة الرئيس بوش إلى اجتماع دولي في أنابوليس، والتي تمَّـت بالفعل في نهاية نوفمبر، ولكن دون أن تُـسفر عن جدول مُـلزم للمفاوضات أو تصور معيَّـن للتسوية، يكون مقبولا من الطرفين الرئيسيين أو التزام إسرائيلي بوقف الاستيطان.

ومع ذلك، فقد اعتُـبر الاتفاق على مجرّد تواصل اللقاءات والبحث في عناصر إقامة الدولة الفلسطينية تقدّما مهما، ولكنه بحاجة إلى متابعة ومثابرة وأخذ وعطاء وإشراف أمريكى مباشر ومساندة دولية، لا تهن ولا تفتر، وهو ما يبشر به الرئيس بوش بقدوم العام الجديد، أن يكون 2008 عام السلام الفلسطيني الإسرائيلي، غير أن الاستجابة الإسرائيلية ومواصلة الاعتداءات على غزة والضفة الغربية، تُـنذر بالعكس تماما.

لبنان.. نهاية مفتوحة أخرى

النهاية المفتوحة على كل الاحتمالات لم تقتصِـر فقط على القضية الفلسطينية، فهناك نهاية مفتوحة أخرى للملف اللبناني، الذي شكَّـل بدوره أزمة سياسية غير قابلة للاحتواء، كان عنوانها الرئيسي اختيار الرئيس الجديد خلفا للرئيس إميل لحود، ومن وراء ذلك، مناورات بين الأكثرية والمعارضة حول من يخلف لحود ووِفق أي طريقة ووِفق أي تفسير للدستور.

وشكَّـل الملمح الأكبر للحالة اللبنانية هذا الكَـم الهائل والمُـتصاعد من التدخلات الخارجية المكشوفة وغير المكشوفة أي خجل. فرؤساء دول ومبعوثين كبار ووزراء خارجية أوروبيين وعرب ومن دول أخرى عديدة، وفدوا إلى لبنان وتباحثوا مع ساستها من كل الاتجاهات حول انتخاب الرئيس الجديد، وكأن كلا منهم طرف لبناني أصيل وليس مجرد ضيف عابر، فضلا عن كمٍّ هائل آخر من المحادثات الهاتفية حول نفس الموضوع. ومع ذلك، مرّ العام والانقسام السياسى اللبناني آخذ في التعمق، وانتخاب رئيس جديد بات لُـغزا، رغم كل محاولات عقد جلسة البرلمان الصحيحة النّـصاب والإجراءات.

ما بعد اختيار الرئيس هو الأهم

أزمة لبنان، وإن دارت بشكل مُـكثَّـف حول الرئيس الجديد، لكنها أبرزت أن الصراع الحقيقي ليس حول الشخص، والذي اتفق عليه من حيث المبدأ بعد طول مُـعاناة، وهو رئيس الجيش العماد ميشيل سليمان، وإنما حول ما بعد هذا الاختيار، أي تشكيل الحكومة والتزاماتها الدولية والإقليمية، والتعيينات المرتقبة في المناصب السياسية والأمنية والقضائية العليا والقوانين، التي يُـفترض إصدارها.

ولما كانت التدخلات الخارجية ليست حاسمة وكذلك توازن القوى الداخلي بين الأكثرية والمعارضة في حالة ثبات نسبي، تبدو احتمالات الخروج من المأزق مرهونة بتسوية إقليمية دولية، قبل أن تكون مرهونة بتسوية داخلية محلية.

ومع انتظار التحركات السورية والسعودية ومن ورائها الإيرانية والأمريكية والأوروبية، والتي قد تستمر شهرين أو أكثر، فالمرجَّـح أن يظل لبنان بلا رئيس دستوري وأن يبقى الوضع غائِـما إلى حين.

سوريا.. نفوذ قديم جديد

أزمة الرئاسة في لبنان، وبصفتها قضية إقليمية دولية بالأساس، فقد كشفت أن النفوذ السوري لا زال قويا ومؤثرا وأن حلفاء سوريا وإيران في الداخل، ورغم كل محاولات احتوائهم، فهم يمثلون رمانة الميزان.

وكان مثيرا أن يذهب المبعوثون الأوربيون إلى دمشق للتحاور معها من أجل إتمام الاستحقاق الرئاسي في لبنان، وكأن الوجود العسكري السوري الذي عاد إلى بلاده قبل عام ونصف، لم يحدث بعد.

وكان مثيرا أيضا، أن يطالب الرئيس الفرنسي ساركوزى نظيره السوري علنا بأن يترك عملية انتخاب الرئيس اللبناني تمر بسلام، في اعتراف غير مسبوق بأن سوريا لاعب لا غِـنى عنه في الشأن اللبناني.

أزمة تشتد وأخرى تنفرج

السودان بدوره عرف دورة الأزمة الممتدة والشاملة في آن. فمن جانب، تعثَّـر الحل في إقليم دارفور المنكوب، رغم الاتفاق على نشر قوات دولية، قِـوامها عشرين ألف جندي بعد مفاوضات وضغوط دولية كبيرة، ومن جانب آخر، عرف شريكا الحُـكم أزمة امتدّت لشهرين، نظرا للتعثُّـر في تطبيق بعض بنود اتفاقية السلام، التي بدأ تطبيقها في شهر يناير 2005.

مثلت أزمة دارفور ولا زالت، نموذجا كاشفا للأزمات التي تفتح أبواب التدخُّـلات الخارجية من كل نوع ومن كل جهة تقريبا. وقد قاومت الحكومة المركزية في الخرطوم الضغوط الغربية، التي قادتها الولايات المتحدة، إلى أن تمت مراعاة بعض مطالبها وتحفظاتها، مما سهَّـل إصدار قرار دولي بنشر القوات الدولية.

ولكن الفشل الدولي والإقليمي في جذب حركات التمرد المسلح إلى مائدة المفاوضات والوصول إلى حل سياسي شامل، وعدم رغبة القوى الكبرى في محاصرة هذه الحركات، وإنما توظيفها قدر الإمكان في مناكفة السودان وحكومته، فقد أبقيا الأزمة على حالها تقريبا تبحث عن مخرج.

ورغم التحسن الأمني النسبي وعودة بعض اللاجئين إلى قُـراهم، فالوضع في الإقليم يُـعد بُـؤرة قابلة للانفجار، خاصة وأن التعهدات الدولية بتوفير الأموال والمعدّات لنشر القوات الدولية لم تؤخذ بجدية، كما أن حركات التمرد ما زالت على موقفها، الساعي إلى اتفاق يُـلقي بكل العبء على الحكومة ويطلق أيدي الحركات في شؤون الإقليم، وكأنه ولاية مستقلة ذات سيادة تحت سيطرتها.

جانب مشرق نسبيا

وربَّـما كان الجانب المشرق، والذي بدا في الأفق في الأيام الأخيرة لعام 2007، متمثلا في تسوية النزاع بين الحركة الشعبية بزعامة سيلفا كير والمؤتمر الوطني بزعامة الرئيس البشير، والذي استمر قُـرابة شهرين، وتركَّـز على تحديد الحدود بين الجنوب والشمال، وتحركات القوات المسلحة التابعة للطرفين وتوزيع عوائد النفط، وبعض المواقع الحكومية ومن يشغلها من المحسوبين على الحركة الشعبية.

ورغم أن فترة التوتر شهِـدت تصريحات لاذِعة وتلميحات بالعودة إلى الحرب، فقد سادت أخيرا لغة الحِـكمة والرَّغبة في التسويات وترك مصير الجنوب إلى ما بعد الاستفتاء المقرر بعد ثلاثة أعوام.

العراق والبحث عن المصالحة والحرية

ربما يلخِّـص طلب حكومة المالكي في الأيام الأخيرة من عام 2007 مدّ فترة بقاء القوات الدولية في العراق لعام آخر، طبيعة ما شهده العراق طوال العام المنصرم.

فالحكومة التي سعت في بداية العام إلى التشديد على رغبتها في تطبيق برنامج للمصالحة الشاملة ووقف العنف وضبط حركة الميليشيات وتدعيم قوى الأمن العراقية الشرعية، وفي الوقت نفسه، استفادت من القرار الأمريكي بزيادة عدد القوات ثلاثين آلفا، للمساهمة بفعالية أكثر لمواجهة تنظيم القاعدة والحركات العراقية المسلحة، أيا كان تصنيفها، هذه الحكومة نفسها لم تتقدّم كثيرا على طريق المصالحة الشاملة، بل عانت من خروج الوزراء المُـنتمين لجبهة الوِفاق السُـنية، وبعدهم الوزراء التابعين للتيار الصدري، وفي منتصف العام، كان مصير المالكي نفسه على المحك، لاسيما بعد أن اختلف مع أكبر حليفين له، أي الحزبين الكرديين.

يمكن القول أن المالكي استطاع أن يعبُـر أزمة حكومته، ساعده في ذلك قرار الرئيس بوش تركه في منصبه مع الضَّـغط عليه، من أجل السير قُـدما لإنجاز عدد من المتطلبات التي قد تساعد على انتهاء العام والعراق ينعم بقدر أفضل من الاستقرار السياسي والأمني، وبما يحسب للرئيس بوش شخصيا، وهو ما حدث جزئيا، لاسيما في الجانب الأمني الذي شهد بعض التطور الايجابي، لاسيما بعد أن طبَّـق ديفيد بترايوس، قائد القوات الأمريكية في العراق استراتيجية جدية، قوامها التعاون مع العشائر السُـنية لحفظ الأمن في مناطقها ومواجهة تنظيم القاعدة، وفتح الباب مرة أخرى للاستفادة من خِـبرات القيادات العسكرية، التي عملت في الجيش العراقي إبَّـان حكم الرئيس الراحل صدام حسين.

حوار مع الجارة إيران

هذه التطورات الداخلية لا تنفصل عن تطوُّرٍ مُـهم آخر لجأت إليه الولايات المتحدة، بتشجيع من قيادات عراقية شيعية نافذة، وهو قبول الحوار مع إيران بشأن الوضع الأمني في العراق، وفي حين كان هدف إيران توظيف الحوار لإثبات قُـدرتها على توجيه الأمور في البلد الجار، كان هدف الولايات المتحدة توظيف الحوار للحصول على تعهدات إيرانية بوقف أي مساعدات أو تدخلات، ذات طابع عسكرى، لحلفائها في الداخل العراقي.

والظاهر، أن إيران الساعية إلى احتواء الضغوط الأمريكية والغربية بشأن برنامجها النووي، قدمت بعض التنازلات وقلصت من مساعداتها للميليشيات الشيعية، التي ناكفت كثيرا الوجود الأمريكي وسعت إلى بسط سيطرتها المباشرة على أجزاء من جنوب العراق والعاصمة بغداد.

التدخل التركي.. أهدافه ورسائله

التطور الأمني وحده يُـصاحبه التعثر في العملية السياسية، يشكل أبرز ملامح العام ويشكل في الآن نفسه جدول العمل المُـنتظر لحكومة المالكي وللقِـوى السياسية الأخرى في العام الجديد.

والمؤكد، أن هذه الاستحقاقات ستُـواكبها إدارة أزمة من نوع آخر، هذه المرّة تأتي من الجار الكبير في الشمال.

لقد مثل قرار تركيا بالقيام بعمليات عسكرية على الحدود مع العراق وفي إقليم كردستان تحديدا، لغرض لوقف هجمات حزب العمال الكردستاني، تطورا نوعيا في السياسة التركية تُـجاه العراق، وتجاه الأكراد العراقيين خاصة، وهو تطور نوعي غير بعيد عن هواجس الدولة التركية العميقة، وقِـوامها التحسُّـب من نمو النزعات الانفصالية لدى أكراد العراق، في ظل التوجه نحو الفدرالية الموسعة، وبما قد يقود إلى انفصال فعلي يؤثر بدوره على النزعات الاستقلالية المكبوتة فعلا لدى أكراد تركيا أنفسهم.

الهيبة الأمريكية

المهم، أن قرار التدخل العسكري التركي مسّ من جانب الهيبة الأمريكية. فبصفتها الحارس الحقيقي الفعلي لأمن العراق إلى حين إشعار آخر، فقد بدا القرار التركي موجَّـها أيضا إلى الولايات المتحدة، لأنها لم تستطع أن تأخذ الخطوات المناسبة لكبح أكراد العراق وللسيطرة على حركة حزب العمال الكردستاني، الذي يجد ملاذه في الشمال.

كما شكَّـل القرار التركي، أول تَـحدٍّ أمني ذي طابع إقليمي للعراق الجديد، في ظل ضعفه العسكري والأمني، وهو تحدٍّ سيظل قائما على الأقل نصف العام الجديد وسيتوقف الأمر على تقدير أنقرة نفسها لِـما حققته من عمليتها العسكرية في شمال العراق، وهل فهِـم المعنيون الرسالة التركية أم لا؟