كتبت السّيّدة دلال البزري في «الحياة»، ملحق «تيارات»، بتاريخ 23/12/07 مقالا بعنوان «نقاش لم يحصل في المؤتمر الأوّل لرابطة العقلانيّين العرب»، قدّمت فيه آراء وخواطر عن العقلانيّة والعلمانيّة لا يتّسع هذا المجال لنقاشها، وقدّمت فيه صورة عن هذا المؤتمر بدت لي مجانبة كثيرا للواقع، باعتباري أوّلا حضرت المؤتمر نفسه وشهدت الوقائع بعينها، وباعتباري ثانيا من الأعضاء المؤسّسين لهذه الرّابطة ومن الدّاعين إلى مؤتمرها:

1- لم يكن اليومان والنّصف مخصّصين لرابطة العقلانيّين العرب، بل كان اليوم الأوّل فحسب مخصّصا لها، وكان اليومان التّاليان مخصّصين لموقع «الأوان» من حيث أنّه منبر لهذه الرّابطة، وهذا ما كان مقرّرا منذ الرّسالة التي تلقّاها المشاركون قبل المؤتمر والتي تضمّنت جدول أعماله. ولا ندري لماذا لم تذكر السيّدة دلال موقع «الأوان»، وقد حضرت ثلاث جلسات تمّ فيها عرض تصميم جديد للموقع، وتمّت فيها مناقشة هويّته وأهدافه، ومناقشة تفاصيل تصوّره وتسييره، بدءا من الأقسام والمواضيع الجديدة المقترح إضافتها، وصولا إلى نظام التّعليق الآليّ أو غير الآليّ... وكان أولى بالسيّدة البزري، من باب الأمانة، أن تذكر وثيقتين للنّقاش وزّعتا على جميع الحاضرين، هما أوّلا قائمة منشورات «رابطة العقلانيّين العرب»، وهي تعدّ حوالى خمسين كتابا مؤلّفا ومترجما، وثانيا مقال للعفيف الأخضر عن العقلانيّة، خلافا لما ذكرته من أنّ اللّقاء خلا من كلّ تنظيم، وكلّ ورقة، وكان «عبارة عن تداع غير منظّم للأفكار والنّقاش». ثمّ لا ندري ما تعيبه بالضّبط على المؤتمر في الصّورة المشوّهة التي قدّمتها عنه: كونه اجتماعا لـ»عقول متفاهمة متضامنة سلفا»، فهي في غنى عن النّقاش، أم كونه انبنى على النّقاش الحرّ غير المنظّم؟ أليس النّقاش الحرّ المسمّى بـ«العصف الذّهنيّ» من أحدث الأساليب المعتمدة في الصّياغات الجماعيّة الإبداعيّة لبرامج العمل؟ أيّ صيغة للمؤتمر ترتضيها، وما الذي منعها من إبداء رأيها في طريقة تسيير النّقاش، وقد أعطيت الكلمة كلّما طلبتها؟

2- لم تُدع السيّدة دلال البزري إلى المؤتمر بناء على «كتاباتها عن الإسلاميّة السّياسيّة» كما قالت، أو كما قيل لها، بل باعتبارها ساهمت في النّشر بموقع الأوان، وأبدت اهتماما به، وبهامش الحرّيّة التي يمكّنّها منه هذا الموقع، وهذا ما قالته أثناء المؤتمر، متحدّثة عن حاجة المثقّفين الأحرار أمثالها إلى «متنفّس»، إضافة إلى كونها قد رشّحت نفسها قبل المؤتمر وبعده إلى أن تكون من كتّاب الأوان القارّين، وقد قوبلت مقترحاتها بالرّفض لأسباب مادّيّة صرفة، تتعلّق بالمبلغ الماليّ الذي اشترطته للكتابة بالموقع.

3- كنت أتمنّى أن لا تتّخذ السّيدة البزري ما تقول إنّه دار في «الكواليس» بديلا عمّا قيل صراحة وعلنا في المؤتمر، وعما تقوله الوثيقة الصّادرة عنه، لترسم صورتها السّاخرة عن المؤتمر والمؤتمرين. وكنت أتمنّى أن لا تسوق شواهد مبتسرة من هذه الوثيقة وأن لا تعمد إلى تشويهها. لا أذكر أنّ أحد الحاضرين تفوّه بعبارات من قبيل «زهقنا من نقد الأنظمة العربيّة» أو «من الضّروريّ فصل الاستبداد الدّينيّ عن الاستبداد السّياسيّ»، بل إنّ ممّا يقوله بيان الرّابطة بوضوح، وما لم تذكره السّيّدة في مقالها هو: «فقد أفضى تعميم اللاّعقلانيّة سياسيّا واجتماعيّا، وبعد مرور عقود عدّة على هزيمة حزيران/يونيو، إلى إلغاء الحرّيّات المختلفة وتبرير الجهل والتّخلّف وتوسيع الاستبدادين السّياسيّ والدّينيّ، وصولا إلى المجانسة بين الشّعب المهزوم والسّلطة القروسطيّة». ثمّ إنّ ما نسبته إلى المؤتمرين من التّعالي ومن «الاحتكار الحصرّيّ للحقيقة»، ومن التّشدّد الشّبيه بالتّشدّد الدّينيّ الأصوليّ تكذّبه هذه الوثيقة التي ختمت بالحديث عن حلم منشود لا عن حقيقة محصّلة في قبضة اليد: «فهي [أي الرّابطة] لا تحتكر القول، ولا تدّعي الأسبقيّة في شيء، ذلك أنّها وجه لجهود مختلفة، حاضرة وقديمة، حلمت ولا تزال بمجتمع يحتكم إلى العقل ويطمح إلى الحرّيّة والمساواة».

4- تتحدّث السّيّدة دلال عن مبرّرات حضورها هذا المؤتمر، فتقول: «أسأل قبل المؤتمر. هناك عناوين جلسات. هذه لا تقول شيئا، ولكنّ الفضول يغلب...». كان من الأحرى مرّة أخرى أن تكون منسجمة مع نفسها، وأن ترفض دعوة إلى مؤتمر ترى أنّ أهدافه ومحتوياته غير واضحة. أمّا «الفضول»، فلا أعتقد أنّه يمثّل مبرّرا محترما أو كافيا لكي تلبّي مثقّفة مثلها دعوة إلى مؤتمر، ولكي تقبل إضاعة أربعة أيّام على الأقلّ من أيّام عملها. ثمّ أليس في دافع الفضول و»الفويّوريزم» هذا قسوة على الكائن البشريّ، وعدم احترام مسبق لكلّ جهد يبذله؟ هل تعتبر السّيّدة دلال المؤتمرات والاجتماعات مكانا للفرجة الممتعة من الخارج على مجموعة من الكائنات الحيّة، تتّخذهم بعد ذلك موضوعا للهجاء والسّخرية؟ أمّا شعورها بـ«الغربة» في المؤتمر، كما كتبت، فهو ما لم يكن باديا للعيان، وما لم تعبّر عنه السيّدة دلال البزري ولو مرّة واحدة على حدّ علمي، سواء في وقائع المؤتمر أم على هامش المؤتمر. وقد قرئت الوثيقة التّأسيسيّة وعرضت على النّقاش، ولم تُمنع السّيّدة دلال من إبداء الرّأي فيها، فلماذا انتظرت شهرا أو قرابة الشّهر لتبدي اعتراضها على وثيقة ساهمت مبدئيّا في إنتاجها؟

5- كلّ عمل بشريّ مبصوم بالنّقص، ومدعاة إلى النّقد والمراجعة، وينطبق هذا على المؤتمر، وعلى الرّابطة وما قامت به وما تنوي القيام به، وعلى بيانها التّأسيسيّ، ولكن شتّان ما بين الأمرين: النّقد والتّحامل، وشتّان ما بين الموقفين: التّساؤل النّزيه والتّشكيك في كلّ القيم الإيطيقيّة والمبادئ السّياسيّة الحديثة. فممّا تقتضيه الأمانة والنّزاهة، ومما تقتضيه آداب الحوار، إضافة إلى الرّصانة الفكريّة، ذكر الإيجابيّات إضافة إلى السّلبيّات، لأنّ الاقتصار على السّلبيّات جزء من ثقافة التّحامل السّائدة اليوم، وجزء ممّا يسمّى بـ»نفسيّة الجموع»، وهي نفسيّة يقول عنها فرويد، مؤسّس التّحليل النّفسيّ، إنّها تُغلّب النّشاط العاطفيّ، والمشاعر المفرطة، والأحكام الجازمة على النّشاط العقليّ النّقديّ، وهنا يكمن وجه من وجوه تعريف «العقلانيّة» أشير إليه دون الاستفاضة فيه. فلماذا لم تكتب السّيّدة دلال كلمة واحدة عن «متنفّس الحرّيّة» الذي يمكن أن توفّره رابطة العقلانيّين العرب، ولم تكتب كلمة واحدة عن منشورات الرّابطة التي تمّ الحديث عنها بتفصيل في المؤتمر؟ لماذا لم تبادر أوّلا بتحيّة المجهود البشريّ التّطوّعيّ الذي يقف وراء تمويل ونشر خمسين كتابا، والمجهود البشريّ الذي يقف وراء موقع أصبح في ظرف تسعة أشهر من أهمّ المنابر الفكريّة والثّقافيّة المتاحة لكلّ الكتّاب الجادّين والمبدعين؟ السّيّدة دلال حرّة في ما شاء لها من آراء وتقييمات، ولكنّ شرط الحرّيّة المسؤوليّة، وشرط الموقف النّقديّ الأمانة، والاثنان كانا غائبين مع الأسف في ما كتبته عن المؤتمر.

6- وختاما، فإنّ من نقاط النّقاش التي أثارها الحاضرون في المؤتمر ما يعبّر عنه في الأدبيّات السّياسيّة الفرنسيّة بـ»خيانة المثقّفين»، وأعتقد أنّ خيانة المثقّفين، خلافا للتّصوّر القوميّ الشّعبويّ السّائد عندنا، لا علاقة لها بالعدوّ الخارجيّ، بل لها علاقة بالسّينيزم وبالعدميّة الأخلاقيّة في تجلّياتهما الاستفزازيّة الحديثة. إنّها تصدر ممّن يعتبرون أنفسهم أكثر ذكاء من غيرهم، ويعتبرون أنفسهم فوق كلّ القيم التي يؤمن بها غيرهم من السّذّج، ويعتبرون أنفسهم فوق كلّ جهد بشريّ محدود بالضّرورة، وفوق كلّ حلم صادق بالتّغيير.