إن المبادئ السياسية التي قام عليها النظام العربي الرسمي منذ مرحلة الخمسينات والستينات من القرن الماضي، تآكلت واضمحلت بل وفقدت حتى وهج شعاراتها التي كانت تؤسس لثقافة ووعي قطاع كبير من الرأي العام العربي. فكل الدول العربية أو لنقل مجملها على الأقل، لم تعد تؤمن بما كان يسمى الثوابت القومية، وبعد أن كانت مصر في عهد السادات تمثل ذلك الطائر الذي يحلق خارج السرب بعد زيارته للكنيست “الإسرائيلي” وما تبع تلك الزيارة من مسلسل “سوريالي”، تم تدشينه بجفاء عربي تمثلت أبرز مشاهده في تأسيس جبهة الصمود والتصدي، وبلغ مرحلة الذروة مع نقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس، وصولاً إلى الحلقات المضجرة التي بات يعرفها القاسي والداني. فإن الزمن العربي الحالي، وبعد أن عاد السرب إلى مصر، يشهد حالياً تخلف طائر “شريد” مازال يؤمن بإمكانية عودة القيم العربية المشتركة بعد أن تزول مساحيق العولمة المتهافتة. لذلك فإن ما يعنينا من سوريا، التي نحيل في هذا المقام إلى أجنحتها النفاثة، هو أسلوب إدارتها لعلاقاتها مع الآخر على اختلاف أطيافه وتوجهاته.

ونعتقد أن العلاقات السورية بالغرب عموماً وبفرنسا خصوصاً، تفترض في هذه المرحلة الكثير من القراءات ومن زوايا متعددة، وسنجازف بالسماح لأنفسنا برسم الملامح الأولية لزاوية من تلك الزوايا. ذلك أن سوريا ومنذ حصولها على استقلالها الوطني لم تتمكن حتى الآن من نسج علاقات متميزة مع دولة غربية بعينها، وإذا انطلقنا من ما هو مألوف وشائع فإننا نلاحظ أن الدول العربية في مجملها تقيم علاقات متينة وأحياناً استراتيجية مع الدول التي استعمرتها ليس لأنها تستمري الخذلان والتبعية، وإن كان بعضها لا يستهجن كثيراً مثل ذلك الشعور، ولكن لأن العلاقات التي تُبنى على الألم كثيراً ما تسهم أكثر من غيرها في فهم سلوكيات الآخر وطبيعة ردود أفعاله، وتلك عناصر تسهم أكثر من غيرها في بناء السياسة ورسم الحدود الواضحة للمصالح.

لم تعتد سوريا كما هو واضح على إشراك قوى غربية كبرى في بلورة وتنفيذ سياستها المحلية والإقليمية، وباستثناء علاقاتها المتميزة مع روسيا التي تقيم معها شراكة استراتيجية على المستوى العسكري، ضمن حدود يحرص من خلالها الطرف الروسي، من أجل المحافظة على شيء من التوازن العسكري بالمنطقة من دون أن يصل إلى المساس بالتفوق العسكري “الإسرائيلي”. وباستثناء العلاقات التقليدية التي تربط المؤسستين العسكريتين السورية والروسية، فإن العلاقات السياسية بين البلدين مرت بلحظات من التوتر والفتور منذ انهيار الاتحاد السوفييتي ولم تستعد شيئاً من توازنها إلا في فترة حكم بوتين، الذي سعى بكل ما أوتي من قوة إلى إعادة بناء التحالفات التي تهاوت بعد غياب الإمبراطورية السوفييتية. وقد تكون تلك التطورات إحدى التجليات السلبية لسياسة وضع البيض في سلة واحدة، ومع ذلك فالحضور الروسي في المنطقة العربية وبالرغم من أهميته فإنه غير مرشح أو مؤهل لأن يمارس الدور الذي كان يقوم به الاتحاد السوفييتي في زمن الحرب الباردة، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان كل المعطيات الدولية الراهنة.

لقد كانت لفرنسا حتى فترة حكم الرئيس شيراك سياسة عربية متميزة، وقد حاولت غير ما مرة أن تستقطب إلى جانبها دولاً عربية محورية، من أجل دعم حضورها بمنطقة الشرق الأوسط، ودعونا نتساءل عن الصورة التي كان من الممكن أن تأخذها المنطقة لو أمكن إقامة علاقة متميزة بين سوريا وفرنسا، أو في أسوأ الحالات علاقة تحمل بعض سمات العلاقات التي تجمع فرنسا بدول المغرب العربي؟ لا شك أن تضارب المصالح بين سوريا وفرنسا بشأن الملف اللبناني يفسر جزئياً طبيعة المشهد السياسي الذي يسم العلاقات السورية الفرنسية بميسمه، وتلك مسألة من الصعب استيفاء عناصرها في هذه العجالة.

وبالرغم من التاريخ الاستعماري الذي ربط بين فرنسا وسوريا، فإن هذه الأخيرة لا تملك جالية قوية لا في فرنسا ولا في أي بلد أوروبي آخر، وذلك على خلاف إيران التي تستفيد إلى حد كبير من جاليتها المهاجرة في الغرب، كما أن سوريا ولأسباب حزبية داخلية لم تتمكن من استثمار العنصر اللغوي في علاقتها مع فرنسا على خلاف دول المغرب العربي التي اعتبرت اللغة الفرنسية بمثابة غنيمة حرب، واستطاعت من خلالها دول مثل المغرب وتونس أن تحصل على الكثير من المزايا والامتيازات داخل الاتحاد الأوروبي على خلاف الجزائر التي خدمت الفرنسية مجاناً ومن دون مقابل. وعليه فمن غير الواضح حتى الآن طبيعة الخيار النهائي لهوية اللغة الأجنبية الأولى في سوريا، ولا أحد يدري إن كان سيتم حسم ذلك الخيار، وفقاً لاعتبارات اقتصادية وتجارية محضة أو بالاستناد إلى سياقات يمكن لسوريا أن تتفاوض انطلاقاً منها من أجل الحصول على مكاسب معينة.

ولإزالة قليل من الضباب عن الصورة العامة للعلاقات الثنائية يمكن القول، إن “إسرائيل” ليست في حاجة للدعم الفرنسي ولا نشك أن الدوائر الدبلوماسية في فرنسا تعي وتعلم ذلك جيداً، أما تصريحات ساركوزي في هذا الصدد، فهي لا تعدو أن تكون محاولة يائسة لاستقطاب تعاطف بعض تنظيمات الجاليات اليهودية المؤثرة في أوروبا وأمريكا، بعد أن تقلص سقف التطلعات الفرنسية بخصوص الدعم العربي لنفوذها بالمنطقة. وحينما نتحدث عن دور الجالية السورية في فرنسا وفي أوروبا عموماً فإننا قليلاً ما نتساءل عن الدور السوري في إبراز القضايا الوطنية لسوريا وتحديداً إشكالية الاحتلال “الإسرائيلي” للجولان، فالرأي العام الفرنسي والأوروبي يبدي تعاطفاً كبيراً مع القضية الفلسطينية لكنه يكاد يجهل في الأغلب قضية الجولان، وينتظر في هذا الصدد من سوريا أن توظف علاقاتها مع الغرب وفرنسا من أجل الدفاع عن قضاياها الوطنية، وفق رؤية جديدة تأخذ بعين الاعتبار التغيرات الإقليمية والدولية الجديدة.

أجل، لا أحد يشك في اقتدار سوريا وفي كفاءتها العالية على إدارة الصراعات في المنطقة، ويشي رصيدها الحالي بحنكة وقوة دبلوماسيتها في التخلص ببراعة من الفخاخ التي تنصب لها هنا وهناك، لكن موطن التفوق والدهاء والحنكة السياسية الذي تمثله عاصمة الأمويين برموزها التاريخية المعبرة، لا ينتظر منها أن تقطع شعرة معاوية مع الغرب والقوة المستعمرة سابقاً. فلا أحد يملك ترف معاداة الغرب حتى وإن كان مقصّراً ومجحفاً بل وأحياناً معادياً لقضايانا المصيرية، فللسياسة مقتضيات قد لا تستسيغها القيم والعواطف، ولا شك أن سوريا ستستفيد من أسلوب إدارة إيران لحوارها مع الغرب بالرغم من الحساسية البالغة لملفها النووي.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)