نحن في هذا الجزء من العالم… والجنوب عموماً، أو قل، ما درجوا على تسميته بالعالم الثالث، معنيون قبل سوانا بالإجابة على مثل هذا السؤال… هذا السؤال الذي يبدو أولاً أنه الإفريقي بامتياز، لأن بلد السفاري، المشرف اليوم على شفير هاوية، أو ربما الأنموذج الإفريقي للفوضى الخلاقة، لطالما روّج بأن فيه وحده المثال المتحذى لمحيطه المضطرب، إذ كم نوّه الغرب قبل الإفريقيين وحتى الكينيين بما ينعم به من استقرار يجعله، أو فيه ما يستوجب جعله، قدوة مفترضةً للقارة السمراء المنكودة الغارقة في فقرها وعوزها ومرضها، والطافحة بقلاقلها وانقلاباتها، أو باحتراباتها الأهلية وصراعاتها الإثنية والقبلية، هذه البالغة حد المذابح المرعبة ودرك الإبادات الجماعية البشعة.

القشرة الديمقراطية الكينية تشققت، فأخرجت البنى القبلية الكامنة تحتها من شقوقها المتفسخة ما خفي من أثقالها وأوزارها، فأطل برأسه مكتوم صراعاتها، ليتهشم موهوم الاستقرار الكاذب، ويصبح المثال المفترض، الذي تتوسط جغرافيته منطقتي البحيرات، الجاثمة على جماجم ضحايا الحروب الأهلية، والقرن الإفريقي الدامي النازف المتضور جوعاً، أقرب ما يكون، أو هو قاب قوسين أو أدنى، من مثال جاره وقريبه الرواندي…

نحن اليوم إزاء حوار سواطير في بلد تضم فسيفسائه، على الطريقة الإفريقية، 40 مجموعة عرقية، لكل واحدةٍ منها هويتها وثقافتها ولغتها… بين قبيلتي الكيكيو والليوس… الأولى، التي تبلغ نسبة عديدها في التعداد العام للبلد 22%، والتي تستند إلى أمجاد الماوماو، وموروث جوموا كينياتا الكفاحي، زعيم الحركة من أجل الاستقلال عن الاستعمار البريطاني 1963، وبالتالي هيمنت، وأعطت لنفسها الحق بالهيمنة، على مقدرات وقرارات الوطن منذ ذلك الحين، وبين ما يشبه الإتلاف الموضوعي من قبائل تنازع هذه المهيمنة ما أعطت نفسها الحق في احتكاره، تتراوح النسبة التعدادية لكلٍ من هذه القبائل ما بين ال14% والواحد في المئة، مثل لوهيا، وكالنجين، وكامبا، والماساي، وبزعامة قبلية الليوس…

الأولى يمثلها الرئيس الحالي مواي كيباكي، المصرّ على فوز مشكوك فيه في الانتخابات الرئاسية المطعون في نزاهتها، بل المرفوض من قبل معارضيه، الذين سبق أن فازوا بغالبية مقاعد البرلمان، والثانية، تتمثل في منازعه على الفوز والإعلان عنه، ومتهمة بالتزوير، رايلا أودينغا، زعيم الحركة الديمقراطية البرتقالية.

للديمقراطية الكينية المؤدية إلى حوار السواطير، والتي سرعان ما نجم عنها فرز قبلي وبالتالي جغرافي، جعلنا نسمع عن جبهة الوادي المتصدع، التي تذكرنا بالكلام الأخير عن حمى هذا الوادي المداهمة للماشية في السودان، مقابل جبهة الهضاب الوسطى، مفارقتها الإفريقية الخاصة... مثلاً، فازت المعارضة بالأغلبية البرلمانية، ولم يكن مثل هذا لها في معركة الرئاسة، وأن مرشحاً للرئاسة يفوز في منطقة ما بأكثر من مليون صوت، وفي أخرى بما يقل أو لا يزيد عن الألفين! وزعيم المعارضة المدعي الفوز في انتخابات الرئاسة أودينغا الابن، أو الذي ورث المعارضة عن أودينغا الأب المعارض لحكم أب الاستقلال جومو كينياتا، يهدد خسمه بتسيير المظاهرات المليونية "إلى أن تفوز إرادة الشعب"، ويصر على إنه لن يحاور كيباكي المتهم ب"سرقة الانتخابات"، إلا بعد أن يعترف فيها بهزيمته. وهذا الأخير، أو الرئيس الذي سارع إلى تأدية اليمين الدستورية، معلناً بدئه لمهام فترة رئاسته ثانية، يتهم معارضيه بارتكاب "إبادة جماعية"، و"تطهير عرقي منظم"، ويرد على التهديد بالمظاهرات المليونية بالتعهد "بملاحقة منتهكي القانون"!

…وشعبياً، الكنائس تحرق بمن فيها ممن التجئوا إليها ناشدين حماية قداستها والحواجز القبلية تسأل المارين بلغتها المحلية فمن لا يفهمها يوكل أمره إلى السواطير... يقال أن الضحايا بلغ عديدها المئات والمشردين مئات الألوف… ومع ذلك، فالناطق باسم الحكومة لا يقر بالأخطار المحدقة، ويقول إن "كينيا لا تحترق، وليست على شفير الانقسام"!

ويزيد من خطورة هذه الدراما الدامية، أو يذكي من نار هذه الفتنة الملتهبة، وبالتالي يتيح لديمقراطية السواطير أن تفعل فعلها، ارتباك الحكومة وحدة غضبة المعارضة، وهذه التي من شأنها أن تزيد من أوار هذه، زادها اعتراف رئيس اللجنة الانتخابية بأنه قد "تعرض لضغوط من كلا الجانبين لإعلان النتيجة بسرعة، وربما بطريقة خاطئة"، وأكثر... قوله: "لا أعلم ما إذا كان كيباكي قد فاز"!

ويرفد هذا الزيت المسبوب على النار، حتى وإن كان هذا بإيعاز مناور من الحكومة، كما تقول المعارضة، مطالبة المدعى العام بإجراء تحقيق مستقل"…

النزاعات في إفريقيا تبدأ محليةً، لتنتشر في الجوار عابرةً شراراتها المعدية الحدود الاستعمارية المفتعلة الهشة ليلتقفها هشيم الموزاييك المتداخل المتنافر في بيئة إفريقية موصوفة بسرعان ما تتحول النزاعات السياسية فيها إلى قبلية... هذه المشكّلة عند اندلاعها فرزاً قبلياً فورياً وجغرافياً، يستدعى التدخل الخارجي، الذي لم يكن يوماً ما بريئاً من محاولة إذكائه أصلاً والإفادة منه… فرزاً قبلياً ينم عن فشل الدولة الوطنية الموروثة عن الاستعمار، أو بديلته المفترضة، ويشي بضعف الهوية الوطنية التي كان يظن أنها سوف تتشكل مع الأيام… وفي "انموذج الاستقرار في إفريقيا"، أي كينيا، التي عرفت المذابح المشابهة عام 1962 في ذات الوادي المتصدع غرباً، وأخرى في مومباسا بعدها بسنوات قليلة شرقاً، والتي عرفت الاغتيال السياسي مبكراً، حيث أغتيل فيها السياسي البارز طوم مبويا 1969، قد لا تنفع المداواة بسحر وسيط الصراعات الإفريقية الدائم، داعية التصالح المحترف، القس ديزموند توتو، الحاصل على جائزة نوبل للسلام، وربما لهذا أيضاً قد تخلى رئيس الاتحاد الإفريقي عن زيارة التوسط المزمعة إلى نيروبي... وإذا كانت الوساطات الإفريقية هذا حالها، فماذا عساه سينفع الاستنجاد بالمستعمرين السابقين، كما عكسته نداءات الحكومة والمعارضة على السواء؟!

وعندما نقول التدخل الخارجي، نتذكر أهمية هذه المنطقة الاستراتيجية بالنسبة لهؤلاء المتدخلين المتحفزين للقيام بما هو ديدنهم، لا سيما والعالم اليوم في عهدة الملتاثين بحمى "الحرب على الإرهاب"، ولأهمية موقع كينيا المتطوعة بشغف للمساهمة بالدور المعطى لها فيها... ولنتوقف قليلاً أمام هذا الارتباك الغربي حيال ما يجري اليوم في كينيا، لنتبين بعضاً مما قد يلوح من بين السطور:

في البدء، سارعت زعيمة الغرب، والمتصرفة فوق العادة بشؤون العالم ومصائره، الولايات المتحدة، إلى تهنئة كيباكي بفوزه، ثم لم تلبث فسحبت التهنئة لتعترف، ومعها الغرب، ب"مخالفات خطيرة" في الانتخابات شابت عملية فرزها… ولتقترح، ومعها الاتحاد الأوروبي، حكومة ائتلافية كينية، ثم تسارع من بعد للتخلي عن مقترحها لصالح الدعوة للحوار، وإرسال الوسطاء إلى نايروبي للحث عليه!

…ولنتذكّر... أن المطالبين بالحوار في كينيا اليوم هم من لا زالوا يعرقلونه في لبنان، ويشجعون من يفشله في السودان... ومن يرفضون دعوة تشكيل لجنة تحقيق دولية في جريمة اغتيال بي نظير بوتو في الباكستان على غرار تلك التي طالبوا بها وسعوا إليها وفرضوها فيما يتعلق بجريمة اغتيال الحريري في لبنان!

إذن، لا سياسة خيرية هنا، وإنما مصالح، ومقاييس ومعايير تكيفها وتفرضها موازين قوى كونية... انهارت ثنائية القطبية الكونية واضعةً حداً لما يعرف بالحرب الباردة، فانجرفت من ثم بفعل سيول آحاديتها، أو وريثة غيابها المتفردة المتغوّلة، سدود وموانع ما كان يعرف بالنظام الدولي… تزعزعت ما كانت تعرف بالقوانين والأعراف الدولية، وبالتالي تهشّمت تلك المتعارف عليها من القيم أو الأخلاقيات السياسية التي تحكم الصراعات الكونية... وبهتت فاعلية الأمم المتحدة، أو انعدمت، بعدما ألحقت بأدوات هيمنة الوريثة، أو سخرت كمنبر، لصالح سطوة المهمين المنفرد بقرار العالم… وصولاً إلى زمن الفوضى الخلّاقة، هذه لتي تجوس غوائلها اليوم العالم من أطرافه إلى أطرافه، وتتوجه وفق إرادة القادر المتفرد الذي يوجهها باتجاه خدمة استراتيجياته الإمبراطورية الكونية… هل كينيا اليوم، مع ما يتوفر فيها من المحلى من الأسباب التي مررنا بها، بمنجى من الاستهدافات والتداعيات، حتى ولو غير المباشرة، لمثل هذه الفوضى؟!

وإذا كانت ليست بمنجى منها، فيمكن سحب هذا بسهولة على إفريقياً بأسرها... على الجنوب، على العالم الثالث، بل والعالم بأسره، والأمثلة عديدة… لكن يظل الأولى بنا، وبالنظر إلى بعضٍ من تجاربنا اللبنانية والعراقية والسودانية والصومالية، وصولاً إلى الفلسطينية... أن نقول: وعلينا نحن العرب تحديداً!