في السبعينات من القرن المنصرم، إذا لم تخنّي الذاكرة، ذكرت بعض التقارير أن العراق يعدّ واحد من أول عشرة بلدان في متوسط دخل الفرد عالمياً.. وفي الثمانينات والتسعينات اختفى هذا التصنيف وتراجع العراق إلى مراتب لم تعد تستحق المتابعة لأنها حتماً لم تكن كما كان في السبعينات بفعل الحرب العراقية الإيرانية، والغزو العراقي للكويت، وما تبعه من حصار اقتصادي أدى إلى تدهور الاقتصاد العراقي وتراجعه على كل المستويات..

أما في القرن الواحد والعشرين وتحديداً منذ الغزو الأمريكي لهذا البلد، عاد العراق مرة أخرى ليتصدر الواجهة ويدخل مجدداً في سباق المراتب الأولى، ولكن هذه المرة ليس على صعيد الاقتصاد ومتوسط دخل الفرد، إنما على صعيد البؤس والشقاء وفقدان الأمن!!.

التقرير الصادر عن منظمة الدفاع عن الصحافيين أفاد عن سقوط ما لا يقل عن 110 صحافيين في عام 2007، كانت حصة العراق وحده منهم 50 صحفياً قضوا شهداء على مذبح الحقيقة وشرف الكلمة. وأشار أيضاً إلى أن أي نزاع في العالم لم يسبب "مثل هذا العدد من القتلى في صفوف الإعلاميين كما يحصل في العراق". ولم يكتفِ بهذا بل أضاف أن العراق، وللسنة الخامسة على التوالي، ما يزال يحتل المرتبة الأولى عالمياً في هذا المجال.

هذا على صعيد الصحفيين الشهداء، فإذا أضفنا إلى ذلك مئات آلاف الأطفال العراقيين الذين قضوا خلال الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق في التسعينات من القرن الماضي وأنتجت لنا بدعة "النفط مقابل الغذاء"، وعشرات آلاف العراقيين الذين راحوا ضحايا بعد الغزو الأمريكي، وملايين العراقيين المشردين والنازحين داخل وطنهم وخارجه، واقتصاد منهار ومرتهن بكامل مقدراته وثرواته، لسنوات لا يعلمها إلا الله، من أجل تسديد فاتورة حساب الكاوبوي الأمريكي الأخرق، واقتتال داخلي يقوّض دعائم البلاد، يطفو على السطح أحياناً، ويخبو كجمر تحت الرماد أحياناً أخرى، ليفرز في الحصيلة، وفوق كل هذا، بيئة ثقافية واجتماعية متهالكة متداعية..

إذا أضفنا كل ذلك، فيمكن القول مرة أخرى: إنه بين سبعينات القرن الماضي والسنوات الخمس المنصرمة من القرن الحالي تحققت المعجزة وعاد العراق مجدداً لدخول السباقات لتربع المراتب الأولى عالمياً!!.

نعم.. دخل العراق السباق العالمي " وبئس الدخول"، ولكن ليس بفضل ثرواته وجهود أبنائه هذه المرة، إنما "بفضل" السياسة الأمريكية المتهورة وصلفها وقسوتها.

محبّو العراق الذين هللوا له في السبعينات من القرن الماضي لتبوئه تلك المرتبة، لن يهللوا له أبداً اليوم.. إنما سيتساءلون: متى سيتعافى هذا البلد من جراحه؟.. فالثمن الذي دفعه وسيدفعه كفاتورة حساب طويلة الأجل، باهظ جداً وعلى كل الصعد.. هؤلاء المحبون يعرفون أن التعافي لا بد له من أن يبتدئ حينما يتوقف هذا الهراء الأمريكي في العراق وفي غيره..