الوضع الاقتصادي، والرغبة في التغيير. قضيتان يعتبر المحللون المتابعون لاطلاق الانتخابات الأمريكية اليوم أنهما باتتا تتقدمان العوامل المؤثرة في خيار الناخب الأمريكي، ليأتي بعدهما عامل الحرب في العراق الذي كان يحتل الصدارة، ولم يعد يحافظ عليه إلا في ولايتي تكساس وكاليفورنيا. ولكن هل ثمة تمييز بين هذه العوامل الثلاثة، اللهم إلا من الناحية النظرية؟ فهل الرغبة في التغيير التي تسيطر على الناخب الأمريكي، هي مجرد ترجمة لمسألة منطقية تلقائية أيضاً، كما يحصل في واقع معظم المجتمعات، أم أنها تعكس قلقاً حقيقياً على المستقبل، بدأ منذ هزة 11 سبتمبر/ أيلول وربما قبلها، مع 11 سبتمبر بالنسبة للمواطن العادي، وقبلها بالنسبة للمحللين الاستراتيجيين وفلاسفة التاريخ؟ سؤال يجيب عنه ما كتبه العديد من هؤلاء عما سماه بعضهم: غياب الكتلة المقابلة، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية. أو ما سماه بعضهم الآخر ومنهم النقيضان: نعوم شومسكي، وصموئيل هنتنغتون، بخوف النهاية. وذلك في سياق تحليل يقول إن سيرورة الامبراطوريات تتسم دائما بمرحلتين: مرحلة النشوء والصعود التي تتسم بدورها بقلق البداية، ومرحلة الهبوط والتراجع والتي تتسم بدورها بخوف النهاية. خوف تداريه الامبراطوريات عادة بزيادة الحروب، ورفع منسوب التسلط والهيمنة، غير أن المفارقة الغريبة هي أن هذا الدواء يسرع في النهاية ولا يؤخرها.

الطريف في الأمر أن هذا التحليل قد ظهر خلال حرب البوسنة، أي قبل سنوات من احتلال العراق، وقبل سنوات أيضاً من فشل هذا الاحتلال الذي كان من المتوقع أن يهيمن بدوره على المعركة الانتخابية الأمريكية. وإذا ما كانت هذه الهيمنة ما تزال بادية كما أسلفنا في ولايتي تكساس وكاليفورنيا، اللتين تدفعان ثمن الحرب أكثر من سواهما، حيث تقع القاعدة البرية الرئيسية في الأولى، وتقدم الولاية 14 في المائة من القوات البرية الموجودة في العراق، في حين أن كاليفورنيا قد تجاوزتها في عدد الضحايا من المجندين، حيث كانت حصتها 2200 قتيل للعام المنصرم، فإن القراءة العامة تدلل على أن الهمّ السائد في البلاد بعامة قد تجاوز الحرب بحد ذاتها إلى نتائجها على مستقبل الامبراطورية.

مستقبل سيحدده الماراثون التقليدي الذي ستحدد نهايته مصير العالم لست سنوات قادمة. مصير قد تدخل عليه خلال الفترة الرئاسية تعديلات تعيد السياسة الدولية إلى فلك الثنائية وربما التعددية القطبية. من هنا يبدو ما تنقله وسائل الإعلام عن احتلال سؤال مستقبل أمريكا من حيث موقعها في العالم، منطقياً، ومعبراً عن إدراك الناخب الأمريكي لعناصر القوة التي تمتلكها بلاده. وإذ تورد التقارير أن هذا الهمّ يترافق مع آخر هو عودة الاقتصاد إلى الواجهة، فإن الامر يبدو منطقيا تماماً، إذ موقع واشنطن الامبراطوري يعتمد على قوتها العسكرية المتفوقة، لكنه من جهة أخرى يعاني عقدة اخيل أساسية هي الاقتصاد، فالامبراطورية التي تشكل عملاقاً عسكرياً لا ينازعه أحد، ليست كذلك على المستوى الاقتصادي. إضافة إلى أن استمرار التفوق العسكري يتوقف على استمرار التمويل، لذا كان كثير من المفكرين الغربيين، من أمثال روجيه غارودي، يراهنون منذ عقدين من الزمن على أن انهيار أمريكا الامبراطورية لن يأتي إلا من الزاوية الاقتصادية.

غير أن ما أخر هذا الرهان هو هيمنة الولايات المتحدة على ثروات الشرق الأوسط العربي، وعلى أسواقه، خاصة بعد احتلال العراق المعلن، ما سمح بإنعاش الاقتصاد الأمريكي لفترة طويلة، وبفرملة نمو العملاق الآسيوي، الصيني أولاً والياباني والنمور ثانياً، وبانتصار معسكر الأمركة في أوروبا، خاصة في الدولتين القياديتين: فرنسا وألمانيا.

لكن إبعاد الخطر الخارجي لم يبعد الخطر الداخلي المتمثل في اتساع هوة الفوارق الاجتماعية بين طبقة فقيرة وطبقة متوسطة تزداد صعوباتها المعيشية، من جهة وبين طبقة بالغة الثراء لا تتوقف ثرواتها عن النمو، سواء بفعل السياسات الداخلية أم بفعل توظيف السيطرة على الثروات العربية والعراقية خصوصاً لصالحها. وهذا ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسات النيوليبرالية التي يقودها الجمهوريون، والمحافظون الجدد بشكل خاص. من هنا قد يكون تقدم الديمقراطيين منطقيا ومدعوماً بتيار شعبي واسع كنتيجة لهذا الواقع وليس فقط كترجمة تلقائية لتداول السلطة بين الحزبين الرئيسيين.

أما في داخل المعسكر الديمقراطي نفسه فقد تحمل شخصية هيلاري كلينتون عنصرين متناقضين: فهي تمثل التغيير كونها امرأة، في بلد لم يعرف سابقاً وجود سيدة على رأس السلطة، ولكنها تمثل أيضاً الاستمرار كونها أمضت ست سنوات في البيت الأبيض.

أما جولياني الذي لقب عقب أحداث مانهاتن ب “عمدة أمريكا”، وهو الذي كان عمدة نيويورك، فقد تراجع بدوره كدليل على تراجع الانفعال بتلك الأحداث نفسها إلى القلق من نتائجها. في حين يتقدم القس مايك هوكابي حاكم أركنساس. فمن منهم سيتمكن من منح الأمل لبلد وصفه شوك تود في “ان بي سي نيوز” بأنه “بلد منهار يبحث عن التغيير وعن التفاؤل، ويشعر أهله، لأول مرة في تاريخهم بأن مستقبل أبنائهم لن يكون أفضل من حاضرهم هم”.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)