ما الذي أسفرت أو ستسفر عنه جولة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الراهنة في المنطقة؟ أو مالذي كان يمكن أن ينتج عنها، سوءً أكان أسلباً أم إيجاباً، لجهة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومواضيع الصراع الأخرى في المنطقة؟

ما الذي أسفرت أو ستسفر عنه جولة الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن الراهنة في المنطقة؟

أو مالذي كان يمكن أن ينتج عنها، سوءً أكان أسلباً أم إيجاباً، لجهة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ومواضيع الصراع الأخرى في المنطقة؟

قد لا نعيد اكتشاف المكتشف، إذا ما قلنا أنه، وسلفاً، ومنذ إعلان نيته زيارة المنطقة، قد كان هناك ما يشبه الإجماع لدى المهتمين والمعنيين، أللهم إلا بعض الواهمين، على أن الباحث عن نصر "ديبلوماسي" بعد حصاد حروبه الاستباقية المتعثرة، قد يسجل له كإنجاز قبل رحيله عن البيت الأبيض، لم يعد، لا سيما في عامه الأخير المتبقى له في سدة الرئاسة في وارد أو في حكم القادر، أن يضيف ملموساً في مواقفه أو يغيّر شيئاً من سياسات بلاده المعروفة تجاه هذه القضية أو قضايا العرب والمنطقة الأخرى... لا سيما وقد جاء إلينا وصورة بلاده ومصداقية إدارته قد أهتزت لدى الأصدقاء قبل الأعداء، و"رؤيته" الزائغة أصلاً للحل المزعوم قد بهت بريقها الزائف، وتضاءل تأثيرها المأمول.

سبقت الزيارة حملة دعائية ترويجية واسعة، نظّر لها المنظّرون، ودبّجت فيها المقالات، وكثرت حولها التحليلات في وسائل الإعلام المتعددة المتنوعة، كانت لحمتها وسداتها، القول، بأن هنالك فرصة يجب عدم هدرها والمسارعة إلى اغتنامها تلوح اليوم قبل رحيله قريب الأزوف عن سدة الحكم، على ناشدي التسوية ودعاتها المسارعة للإمساك بها...

لكن هذه الحملة لم تخفِ، أو لم تنجح في إخفاء، أن بوش سوف يعيد إنتاج نفسه حتى آخر يوم له في المكتب البيضاوي... وهذا ما أكدته تصريحاته السابقة على الزيارة، وما رفدها من تصريحات المسؤولين الأمريكيين، وفي مقدمتهم ستيفن هادلي مستشاره للأمن القومي.

حذر بوش العرب قبل قدومه، بقوله، "ربما لا يؤيد الشخص التالي (يقصد من سيخلفه في الحكم) فكرة دولتين، وربما يريد الشخص التالي التوقف لفترة قبل التحرك"!

وحذر إيران، من أن بلاده ستدعم إسرائيل "دون تحفظ" إذا ما هي هاجمتها! وأنه سوف يضغط على حلفائه لإبقاء "الطموحات العدوانية الإيرانية" محل تدقيق!

...وأخيراً، "أن مستقبل الشرق الأوسط، وكذلك الأمن في الولايات المتحدة يعتمد على النتيجة التي سيؤول إليها هذا الصراع" الذي يديره في المنطقة... الصراع ضد ما يسمى "الإرهاب"، أو هذا المصطلح الممنوع من التعريف، والمتسع ليشمل كل من يقاوم احتلالاً، أو يرفض تبعية، أو يمانع في مواجهة محاولات إملاءات القبول بالحضوع، أو لا يستكين للهيمنة التي تفرض عليه، أو حتى تتناقض مصالحه مع المصالح الأمريكية، فيصنف بالتالي إرهابياً أو راعياً للإرهاب، أو مدرجاً في قائمة محور الشر، أو يعد الخارج على إرادة "المجتمع الدولي"، أو المعادي للعالم الحر!

كان واضحاً قبل القدوم، أنه إنما لن يزد على طمأنة الحليف والتأكيد للعدو أن لا شيء تغير، وأن بوش، كما قلنا في مقال سابق، لن يخذل بوش، وأن المطلوب هو النفخ في حكاية آنابوليس، باعتبارها مرجعية جديدة للموصوفة ب"عملية السلام" والدفع على أساسها. وأن المرغوب هو احتواء إيران باعتبارها الخطر البديل لإسرائيل، والذي يستوجب درءه أو القضاء عليه، ومحاولة تأسيس نظام إقليمي على هذا الأساس.

...وكان واضحاً أيضاً، أنه والإسرائيليين سيحاولون الإيهام بتحريك ما لا تتحرك ولا يراد لها إلا حراكاً باتجاه تصفية القضية وإعلان الاستسلام، ونعني هنا، هذه الموصوفة ب"عملية السلام". أو زعم إطلاق ما ليسوا فعلاً في وارد إطلاقه... كلام عن إزالة بؤر استعمارية غير شرعية، وكإنما هناك ما هو شرعي منها... وكل هذه الأمور مرهونة بتحرك فلسطيني ضد "الإرهاب"، بمعنى البدء في حرب أهلية فلسطينية، تتكفل بما عجز العدو نفسه عن تحقيقه...

الإسرائليون مهدوا بدورهم للزيارة البوشية بما ينسجم مع استهدافاتها المنسجمة مع أهدافهم... بعد أن سددوا ضربة قاتلة لمرجعية السلام الجديدة آنابوليس بضربة قاصمة وجهوها لمرجعيتها الأصل خارطة الطريق، عندما توالت عمليات الإعلان عن بناء أو توسعة مستعمرات، وعن نية إطلاق مشاريع استعمارية تهويدية جديدة، آخرها في منطقة حي باب العامود في القدس المحتلة للحؤول دون أي ممر مستقبلي يوصل العرب إلى باحة المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف... بعد هذا كله، توافق أولمرت مع أبي مازن على الإيعاز لأطقم مفاوضاتهما بمباشرة التفاوض على ما يعرف بقضايا الوضع النهائي... وأصدر أوامره لجيشه بمواصلة سفك الدم الفلسطيني في غزة ونابلس، بحيث يبدو أن المراد هو أن يجول بوش في المنطقة وغزة تسبح في دمائها ونابلس تكفكف دموعها، وحيث ما تبقى من فلسطين التاريخية يجري تهويده على مدار الساعة...

وهنا أجمع الإسرائيليون والأمريكان على التناغم في مسألتين:

الأولى: تحريض من يعتبرونهم "المعتدلين" ضد الذين يرونهم "متطرفين"، من العرب، ومحاولة إذكاء نار عداوة مفتعلة بين "العرب والفرس"، والتي لا يريدها ولا يسعى لها الطرفان أصلاً، وهذا ما ستثبته جولة بوش في المنطقة، والتي كافة الدلائل تشير، حتى الآن، على أن من أتاهم محرضاً سوف يردونه فاشلاً لوعيهم بخطورة ما يسعى لدفعهم إليه... ولتجاربهم المريرة فيما سبق من دروس أمريكية كارثية مرت عليهم تعاني وستعاني المنطقة لعقود قادمة من تداعياتها.

والثانية: اغتنام الإسرائيليين تأكيدات بوش السابقة والمتجددة بالسعي حتى آخر يوم في رئاسته لانتصار الصهيونية النهائي على العرب عبر فرض الشروط الإسرائيلية لإنهاء الصراع في بلادهم، بما يعني اعترافهم بالهزيمة النهائية عبر الموافقة على تصفية قضيتهم نهائياً في فلسطين... الأمر الذي استوجب، من حيث التمهيد لذلك، الخروج بمقولة "يهودية الدولة"، بما يعني البدء في التخلص من خطر الديموغرافيا الفلسطينية، أو التمهيد للترانسفير، كهدف صهيوني إستراتيجي أساسي لم يجر التخلي عنه يوماً، وآن اليوم أوان التمهيد والتهيئة له.

...وأجمعوا، على إلقاء عظمة "دولة" وهمية للفلسطينيين مقابل مطالبتهم التنازل عن وطن، والاعتراف بدولة يهودية تقام على أنقاضه، يلغي هذا الاعتراف بها تلقائياً حق العودة بالنسبة لملايين المشردين منهم سواء في الشتات أو الوطن، ويشرع استلاب وطنهم منهم ويمهد لطرد المتبقين الصامدين منهم على ترابه... توافق أمريكي- إسرائيلي على إطلاق عملية ابتزاز واسعة النطاق ترفع هراوة أمر واقع، وفرصة متأتية عن اختلال لا يقاس في موازين القوة، وتستغل حالة عجز عربي قاتل، ولحظة تواطؤ دولي شامل.

وبعد أن وصل بوش إلى فلسطين المحتلة، وانطلق منها في جولته على المنطقة، وأعلن أنه سوف يعود إليها مرة أخرى قبل رحيله عن البيت الأبيض، مالذي كان منه؟

لقد كرّر وأكّد وكرّس ما كان منه في آنابوليس:

أعلن إسرائيله "وطناً للشعب اليهودي"، وكنا قد أوضحنا آنفاً ما يعني هذا... وطالب الفلسطينيين بالتخلي عن حق العودة إلى وطنهم، وقبول آلية تعويضات مقابل هذا الوطن... وقال للعرب: "ادعوا الدول العربية للتواصل مع إسرائيل، وهي خطوة كان يجب أن تحصل منذ فترة طويلة"... بمعنى دعوتهم مجدداً للتطبيع مقابل السلام!

وإذ كانت القدس بالنسبة له "موضوعاً صعباً"، وأعطى الإسرائيليين، كما تقول المصادر الإسرائيلية، الضوء الأخضر لبدء عدوان دموي على غزة، فلقد رسم حدود "الدولة" الموهومة المؤقتة، وكرّس ما هوّد من الضفة، عندما قال: ب"تعديلات متفق عليها من الجانبين لخطوط هدنة 1949 لتعكس الوقائع الحالية"!!!

يكفي هذا، ولا داعي للتعرض لرمزية تجاهله لضريح الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، في حين حرص وهو يعتمر القلنصوة اليهودية على وضع باقة على نصب "أياد فاشيم"... ويكفي، ذكر ما أكده مستشاره للأمن القومي ستيفن هادلي، عندما قال، أن بوش "لم يعلن سياسة جديدة في المنطقة، وإنما كان يحاول أن يؤكد الموقف الأمريكي"...

الأمر الذي ثنّى بل وأثنى عليه الإسرائيليون ضمناً، مؤكدين، عندما علقوا على مواقف بوش التي أعلنها إبان الزيارة:

إننا "نرى فيها اتساقاً مع التفاهمات" التي بيننا وبين الأمريكيين...

مرة أخرى نقول: بوش لن يخذل بوش... إنه يعيد إنتاج نفسه... وسيغادر البيت الأبيض كما دخله...أي وهو لا يقل إسرائيليةً عن أولمرت!