"إيران أكبر دولة راعية للإرهاب فى العالم وتهدد أمن جميع الدول".. إنها "تدعم إرهاب حماس وحزب الله فى لبنان وتسلح المتطرفين فى أفغانستان والعراق وتُرهب جيرانها فى الخليج"..
هذه عينات من أقوال الرئيس الأمريكي بوش خلال زيارته الأخيرة لعدد من دول الخليج العربية، وهى عبارات واضحة المعانى والدلالات، وأوضح ما فيها أنها تعمل على بلورة صيغة جديدة لمصادر التهديد فى منطقة الخليج بما يرضى منطق بوش الذاتى، ويبرر التدخل الأمريكى المباشر فى تشكيل نظام أمنى يعتمد فيه عرب الخليج على الحماية الأمريكية المباشرة فى مواجهة عدو مفترض.

لقد تأكد فى الدول الخليجية الأربعة، الكويت والبحرين والإمارات والسعودية، أن الهدف الأول لزيارة بوش يكمن فى عزل إيران وجذب الدول الخليجية للمنطق الأمريكي، وإعادة تكييف مصادر التهديد لهذه الدول العربية بما يجعل إيران العدو الأول لهم، وبما يعنيه ذلك من نتائج سياسية واستراتيجية بالغة الخطورة على مجمل مصالح هذه الدول وعلى مجمل منظومة الأمن فى المنطقة ككل.

التصريحات المشار إليها وما يماثلها مما قاله بوش وإن هدفت إلى إقناع القادة الخليجيين بجدوى الانضواء فى تحالف دولى تقوده واشنطن لعزل إيران، فقد هدفت أيضا إلى إثارة اللغط السياسى داخل إيران نفسها، فضلا عن نسج مساحة اختلاف وشك كبرى بين إيران وجيرانها الخليجيين الذين يديرون سياسة انفتاح عليها، تعد مدروسة بعناية سياسيا واقتصاديا وأمنيا، كان من نتائجها بلورة قدر من الثقة المتبادلة حول ضرورة إبعاد المنطقة عن شبح المواجهة بين أطرافها، والتعامل مع المشكلات والهواجس المتبادلة أمنيا وسياسيا وفق صيغ الحوار وتبادل الآراء بقدر من الانفتاح والثقة والرغبة فى تجاوز المشكلات إن وجدت. وهى الصيغة التى لا تتناسب تماما مع النزعة الأمريكية فى توتير العلاقات الإيرانية الخليجية بوجه عام.

ففى مقابل الدعوة إلى عزل إيران، كانت هناك الدعوة إلى الحوار معها، وهو ما أكد عليه الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودى حين استبق قدوم بوش إلى بلاده بالقول أن بلاده ليس لديها شئ ضد إيران، ثم وصفها فى اللقاء الصحفى المشترك مع نظيرته الامريكية كوندليزا رايس بأن إيران دولة جارة ومهمة فى المنطقة، ونافيا أنها تمثل مصدر تهديد لبلاده.

المحصلة الكلية مؤجلة أمنيا

ومثل هذه الصيغة العملية المقننة والتى يحرص عليها الخليجيون العرب لتجنب الانزلاق إلى هاوية حرب لا معنى و لا ضرورة لها، وإن لم تنهى بعض الهواجس من نزعات إيران الهجومية فى الإقليم ككل، كما هو الحال فى العراق، تختلف من حيث مضمونها ومساراتها مع كلا الصيغتين اللتين طرحتهما إيران نفسها ممثلة فى دعوة الرئيس أحمدى نجاد حين شارك فى القمة الخليجية الاخيرة فى ديسمبر الماضى التى عقدت فى العاصمة القطرية الدوحة، واستندت إلى إقامة شراكة كاملة فى كافة المجالات بما فى ذلك المجال الأمنى، وهى الدعوة التى استقبلها الخليجيون بالترحاب شكلا والرفض مضمونا.

كما تخالف الدعوة الأمريكية التى حملها بوش وتقضى بالتحالف الخليجيى الأمريكي لعزل إيران ودفعها إلى الاستسلام لمطالب الغرب وشروطه.

ويبدو من المحصلة الكلية لزيارة بوش أن هدفى عزل إيران وتشكيل تحالف مع بلدان الخليج العربية لم يتكللا بالنجاح، ليس لعوج المنطق الذى قامت عليه، وإنما بفعل تأثيراته الكارثية المرجحة والتى سيتحملها أهل المنطقة إن تماشوا معها، أو سايروا بعض أهدافها. وهى نتائج تتصادم جملة وتفصيلا مع رغبتهم الجوهرية فى العيش بسلام وحسن جوار مع الجارة إيران.

وبالقطع ، فهذا لا يعنى أن الضغوط الأمريكية سوف تتوقف، أو انها ستترك الخليجيين يديرون علاقاتهم الانفتاحية بقدر من السلاسة والهدوء مع جارتهم إيران.

ففى بعض التقارير، زرد أن بوش مارس ضغطا شديدا على بعض قادة الخليج لكى يوقفوا تعاملاتهم الاقتصادية والمالية والتجارية مع المصارف الإيرانية.

ودون توافر معلومات عن الموقف الذى قابل به هؤلاء القادة مثل هذه الضغوط، فمن غير المستبعد أن يكون هناك نوع من المناورة فى هذا السياق، كأن توقف بعض التعاملات المحسوبة إرضاء للولايات المتحدة، مع تغيير مسارات التعاون المالى تحديدا لتصبح غير مباشر نوعا ما مع الحفاظ على علاقة اقتصادية وتجارية معقولة مع إيران. خاصة وأن كثيرا من كبار التجار ورجال الأعمال فى بلدان الخليج لهم أصول إيرانية وارتباطات كبيرة مع نظرائهم فى إيران.

نحو تشكيل امنى جديد

حين يصر الرئيس بوش على جعل إيران المصدر الأول لتهديد ولترهيب وتخويف دول الخليج، فى الوقت نفسه ينادى هذه الدول نفسها بمد يد التعاون إلى إسرائيل باعتبارها دولة مهددة فى وجودها من جراء استمرار ما يعتبره عزلتها عن جوارها الجغرافى المباشر، فإنه بذلك يطرح قضية إشكالية لدى الدوائر الأمريكية ولكن لا وجود لها بالنسبة للدوائر العربية.

فالاهتمام الأمريكي بعزل إيران بالمعنى الاستراتيجى تمهيدا للتأثير على نظامها السياسى واستقرارها الداخلى ومن ثم الإطاحة بهذا النظام تحت دعاوى "بناء ديمقراطية إيرانية تراعى الالتزامات الدولية ومشاغل الدول الكبرى وما يسمى الشرعية الدولية"، هو اهتمام لا صدى له بنفس القدر فى الدوائر العربية، وذلك بالرغم مما يقال من وجود من قلق عربى عام، وخليجى خاص من تنامى الدور الإيراني فى المنطقة، انطلاقا من العراق والموقع الجغرافى وامتلاك حصة إنتاج نفطية كبيرة تؤثر فى عمل ماكينة الاقتصاد الدولى ككل، فضلا عن الغموض المحيط ببعض جوانب برنامجها النووى وضغوط الغرب عليه.

إشكالية مضادة

إن غياب إشكالية إيران لدى دول الخليج العربية بالطريقة التى أرادها الرئيس بوش وعمل على تأكيدها، يقابلها إشكالية عربية خليجية تتمثل فى أن تعثر عملية تسوية القضية الفلسطينية واستمرار العدوانية الإسرائيلية والانحياز الأمريكي، هى الأسباب الحقيقية لغياب الأمن فى المنطقة، وتعرض الاستقرار لحالة من الاختبار الدائم.

ومثلما قلت استجابة الخليجيين لمنطق بوش، يبدو أيضا ان بوش لم يستجب كثيرا لمنطق قادة الخليج بشأن أولوية السلام عن أولوية المواجهة غير المحسوبة مع إيران.

وفى المحصلة جاء بوش وعاد، طارحا أفكارا لم تكن مقبولة قبل قدومه، وتأكد رفضها بعد قدومه، أو على الأقل لم تجد التجاوب الخليجى المرغوب أمريكيا.