مالعلاقة بين مذابح ما بعد آنابوليس في غزة، والعودة المنتظرة للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن المنتظرة أواسط ايار/ مايو القادم للمشاركة في الاحتفال بمرور ستين عاماً على نكبة فلسطين وقيام إسرائيل على أنقاضها؟

وما هي العلاقة بينهما، وبين المفاوضات "الاستكشافية"، التي يقال أنها تدور بين إسرائيل وسلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود بشخصي تسيبي ليفني وأحمد قريع؟

بل ما هي العلاقة بين هذه العودة المنتظرة، والجولة الأخيرة في منطقتنا، التي انتهت قبل أيام، للرئيس فقط لنهاية هذا العام لا أكثر للولايات الكتحدة... هذه الجولة أو الزيارة، التي تنقّل فيها مرتحلاً ما بين عواصمها بالتزامن مع وقائع هذه المذابح الغزاوية، الدائرة حتى اللحظة، وعلى وقعها!

...وقد نطرح تساؤلاً أكثر مفارقةً وأشد غرابةً، هو، ترى مالعلاقة بين كل ما تقدم، وانتشار زراعة الخشخاش على الطريقة الأفغانية في العراق المحتل؟!

قبل مغادرته فلسطين المحتلة كرر بوش تبنيه للمواقف والسياسات الإسرائيلية بخذافيرها... رؤية أولمرت، أو قل شارون، للتسوية أو التصفية الأمريكية الإسرائيلية المرادة للقضية الفلسطينية: ضم المستعمرات أو ما تدعى كتلها الكبرى، وأن لا عودة لللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي شرّدوا منها، ولا عودة للحدود التي كانت قبل حرب العام 1967، أو ما دعاها بخطوط الهدنة في العام 1949، وأن لا اعتبار لما يعرف بقرارات الشرعية الدولية، عندما انتقد واستهان، ربما لأول مرة علناً بالأمم المتحدة وقراراتها فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وأخرج القدس من حساباته متفقاً مع الطريقة الإسرائيلية لهذا الإخراج... وختم مآثره بيهودية الدولة، دون أن ينسى تكرار دعوة العرب للتطبيع مقابل السلام، والعودة لاغتنام بركات رؤيته الحولاء المعروفة ب"حل الدولتين" قبل رحيله الآزف عن البيت الأبيض بانقضاء أشهر هذا العام... دولتان، وأحده سيعود للاحتفال بذكرى قيامها قبل ستين عاماً، والأخرى يراد لها أن تظل في علم الغيب، ورهناً بالمفاوضات "الاستكشافية"، وفق تعبير ينسب مؤخراً لأحمد قريع، كان يصف به ما تم بينه وبين ليفني حتى الآن... دولة يدعو ربه لأن يباركها، وأخرى مؤقتة موعودة، ومقرر سلفاً أن لا تواصل بين أوصالها المقطعة أو كانتوناتها المجزأة، أو في الجوهر، هي بلا سيادة، أو هي بلا لون ولا طعم ولا رائحة بين الدول، كما لا مقوّمات أو قدرة لها على الحياة، دونما الأخذ بعين الاعتبار جدية المزاعم التي تؤكد على ذلك قولاً لا فعلاً... الخ الشكل والمضمون المراد لها إسرائيلياً، وبالتالي أمريكياً، وهذه أمور غدت معروفة لا داعي للتطرق لها... وأخيراً فإن كل ذلك الذي يتكرمون به على الفلسطينيين يظل رهناً بأمر أو اشتراط دائم، أصر عليه شارون قبل أولمرت وثنَّى عليهما فيه بوش، يقول:

بأن ما هو في علم الغيب، من أمر هذه المسماة بالدولة، يظل رهناً بأن تبدأ السلطة الفلسطينية بمحاربة الإرهاب، أو أول بندٍ في المرحومة خارطة الطريق قبل ماعداه... أي التزامها قمع المقاومة الفلسطينية للاحتلال، بمعنى القيام عملياً بالدور الأمني المراد منها لحفظ أمن المحتلين ونيابة عنهم!

...وقبل المغادرة، وهذا ما قاله الإعلام الإسرائيلي سلفاً، أعطى بوش للإسرائيليين الضوء الأخضر لمواصلة مذابح ما بعد آنابوليس في غزة، وهاهو هذا الضوء الأخضر قد تحوّل قراراً أو تجديداً لقرار كان ينفذ أصلاً بالنسبة لحكومة أولمرت، ويغدو أمر عمليات يومي يتجدّد بالنسبة لوزير الحرب باراك... ودماء تسبح فيها غزة... غزة المحاصرة التي آخر أنبائها تقول بنفاذ أقمشة الأكفان التي قد لا تتوفر قريباً لأجداث قوافل شهدائها... زيارة بوش أعطت زخماً لمتوالية المذابح الإسرائيلية في غزة والضفة... الزيارة لم تضف جديداً، ولم تتنكر لقديم، من المعتاد المشترك الأمريكي الإسرائيلي، وهذا ما عالجناه في مقال سابق... بيد أن الإسرائيليين تصرفوا حيال ضيفهم الإمبراطور الراحل قريباً عن العرش بعكس ما تصرف العرب، عاملوه بما هو الأقرب لمعاملة رئيس أمريكي سابق، قد يحتفظون له بالقليل من العرفان حيال ما صنعه لهم من جميل، بل جمائل لم يسبقه إلى فعلها رئيس أمريكي، ربما لو كانوا أوفياء، وهذا ما لا يعرف عنهم، لكانت صنائعه مدعاة لأن يرقى في نظرهم إلى مرتبة الذين يطلقون عليهم لقب "الأباء المؤسسين"، وأن هم، للإنصاف، لم يكتموا دهشتهم لما بدى منه، وكأنما هو يزاود في صهيونيته على يسارهم ويمينهم مجتمعين..!

...وفي التفاوض "الاستكشافي" المتزامن مع توسعة عملية التهويد، أو مواصلة بناء المستعمرات، وارتكاب المذابح في غزة، التي لن تسلم منها الضفة بعدها، يبدو، وهذا ما يقوله الإسرائيليون أنفسهم، أن أولمرت يفاوض ائتلافه وليس "السلطة الفلسطينية"، مستبقاً نشر تقرير لجنة "إغرانات" الموكل لها التحقيق في إخفاقات حربه الأخيرة على لبنان، التي قد تذهب بحكومته آخر الشهر... قال أمام لجنة الخارجية والدفاع في الكنيست، "لست واثقاً من أننا بإمكاننا التوصل إلى اتفاق، ولست واثقاً من إننا بإمكاننا تطبيقه... لست واثقاً أن الرجل الذي يقود السلطة الفلسطينية "قادر على تطبيق الاتفاق"!

إذن لماذا عناء التفاوض؟!

يجيبنا أولمرت، وهو يرد على بعض إئتلافه:

"من يحاول الإبقاء على الوضع الراهن من دون التقدم إلى الأمام، فسيضطر غداً إلى التفاوض مع حماس في الضفة الغربية، وفي وجود جو دولي لن تكون فيه ذرة تفهّم لاحتياجات إسرائيل الأمنية"!

إذن، لا بد من اغتنام بركات الفرصة البوشية لتصفية القضية الفلسطينية... ويطمأن الإسرائيليين:

"لا تستخفوا بما نقوم به هناك (يقصد غزة)، ثمة حرب قائمة هناك، نديرها بطريقة حكيمة"..!

وطريقته الحكيمة هذه تتوالى دمويتها راهناً في غزة، لقد أعلنها حرباً مفتوحة، وصفها بالقول بأنها "بلا رحمة، بلا تسوية، وبلا تنازلات"... طبعاً، مع ترداد ذات اللازمة التي تقول برغبته المفرطة في "السلام"، وأصراره السلمي "من دون تردّد"!

حرب يرفدها دائماً التفهّم والتفاهم، أو الدعم والتغطية الأمريكية الجاهزة دوماً... عندما حدثت مذبحة حي الزيتون، وأسفرت وحدها عن 17 شهيداًُ وحوالي خمسين جريحاً، علق المتحدث باسم البيت الأبيض غوردن جوندرو عليها بالتالي:

"نأمل من الإسرائيليين تحرى الدقة في ضرباتهم ضد الناشطين، وندعو الفلسطينيين الكف عن قتل الإسرائيليين الأبرياء"... أي لم ير الأمريكان فيها إلا ما يدل على ما يزعم بأن الضحية ترتكبه ضد جلادها!!!

وفيما تلى من المذابح كرر الأمريكان هذا المنطق، عندما أشادوا ب"دفاع إسرائيل الشرعي عن نفسها"، لكن مع التمني عليها اتخاذ "الخطوات الممكنة" لتفادي إلحاق الأذى بالمدنيين "على غرار ما نقوم به مع قواتنا المسلحة" في العراق وأفغانستان مثلاً... أللهم إلا ما كان يحدث دائماً هناك من مجازر "عن طريق الخطأ"!!!

لا غرابة في تبني بوش لكل ما هو إسرائيلي ولا جدة فيه، ولا لمحاولته توجيه ضربة مسبقة للمبادرة العربية في لبنان قبل مغادرته المنطقة، ولا ما يستغرب إذا ما عاد ليودع المنطقة قبل رحيله عن سدة الحكم في بلاده محتفلاً بقيام إسرائيل أو اغتصاب فلسطين، ولا ما يدهش في أن يجتمع مجلس الأمن لصاحبته الولايات المتحدة ليفرض العقوبات على تاجرين في الكويت بتهمة مساندتهما المشتبه بها لما يوصف بالإرهاب ولا يلقي بالاً للمذبحة المتوالية ضد النساء والأطفال والشيب قبل الشبان في غزة، لكنما الغرابة إنما هي في تعقيب ينسب لأبي ردينة في رام الله على الدعوة الغزّاوية لوقف المفاوضات "الاستكشافية" احتجاجاً على المذابح، التي تجري هناك، عندما قال: إن وقف المفاوضات قرار عربي... لعلها النكتة التي تذكرنا بحكاية "الممثل الشرعي الوحيد"، وشعار "القرار الوطني المستقل"!!!

في مذبحة حي الزيتون وحدها، قدمت عضوة المجلس التشريعي مريم قرحات شهيدها الرابع... كان ابنها رامي الذي لحق بأشقائه الثلاثة الذين استشهدوا إبان الانتفاضة الثانية... وقدم القيادي الفلسطيني الدكتور محمود الزهار شهيده الثاني الذي لحق بشقيقه الذي كان قد قضى قبل أسبوع واحد من موعد زفافه... الزهار أبّن فقيده بشموخ يليق بآباء الشهداء وقال ما يقوله الفلسطينيون: "إذا ظن الإسرائيليون أن حالة الضعف في العالم العربي ستبقى فهم واهمون"... وفعل ما يفعلونه، رفع بندقية ولده الشهيد عالياً، وقال: "سأورثها لأحفادي لكي يرفعوها فوق المسجد الأقصى"...

بقي أن نقول بالعلاقة بين كل ما تقدم وانتشار بدعة زراعة الخشخاش في العراق المحتل كاستنساخ للحالة الأفغانية تحت ذات الاحتلال... إنها الفوضى الخلاقة، وأنموذج لتداعيات السياسات الأمريكية الكارثية على أوطاننا التي خير من يمثلها ويرمز لها هذا الراحل عنا قبل أيام القادم إلينا بعد شهور ليختفل معتمرا القلنسوةً بالذكرى الستين لاغتصاب فلسطين وقيام إسرائيل على أنقاضها.

مصادر
سورية الغد (دمشق)