المبادرة العربية التي خرج بها اجتماع وزراء الخارجية العرب بشأن الأزمة اللبنانية مثلت آخر ما استطاع “التفاهم العربي- العربي” أن يقدمه لحل هذه الأزمة. ولم نعرف بعد ما سيتوصل إليه عمرو موسى في لقاءاته مع الزعامات اللبنانية، ومدى النجاح الذي سيحققه في إقناع الأطراف إياها حول قدرة هذه المبادرة على توفير حل للأزمة المستعصية، فهناك من رحب بالمبادرة وهناك من تحفظ عليها، وهناك من لا يزال ينتظر ما سيسمعه من أمين عام الجامعة العربية. وفي كل الأحوال ومهما كانت النتائج التي سيتوصل إليها موسى، فإن افتراض أن هذه المبادرة قادرة على توفير الحل، يفترض بدوره أن التنازع العربي- العربي كان السبب في عدم التوصل إلى تفاهم لبناني- لبناني على الحل. ومن دون الدخول في تفاصيل هذه المبادرة، وما يمكن أن تثيره من عقبات في طريق وضعها موضع التطبيق، نجد أنفسنا أمام سؤال لا بد منه، وهو: هل كانت المشكلة حقاً تنحصر في الخلاف العربي- العربي حول لبنان، أم أنها كانت ناجمة في الأصل عن الخلاف اللبناني- اللبناني، أم أن الأمر غير هذا وذاك؟

طرح المشكلة على النحو السابق، يفيد بأن اللبنانيين لم يكونوا مختلفين فيما بينهم لولا الامتدادات العربية في الوضع اللبناني وتأثيرها في مواقف الأطراف اللبنانية، بحيث أصبح ممكناً تحقيق التفاهم اللبناني- اللبناني عندما تحقق التفاهم العربي- العربي وأنتج المبادرة. والأخذ بهذه الفرضية يتجاهل بل يخفي، عن قصد أو عن غير قصد، السبب الحقيقي الأبعد وراء الخلافات العربية- العربية واللبنانية- اللبنانية معاً، وهو التدخل الدولي في الشأن اللبناني. والمتمعن في الوضع اللبناني يمكن أن يذهب إلى حد القول إن الامتدادات العربية فيه ليست سوى امتدادات للتدخل الدولي، وبطلب من الدول الأجنبية أو بموافقتها، وأحيانا بهدف معارضتها، كما يبدو ذلك واضحاً من مراجعة تاريخ كل الأزمات التي مر فيها لبنان منذ الاستقلال، وبذلك يصبح المطلوب، حتى يكون الحل متاحاً، هو وضع حد لهذا التدخل الدولي في الوضع اللبناني أكثر مما هو مطلوب وضع حد للتنازع العربي حوله.

وحتى نضع أرجلنا على أرض المشكلة، علينا أن نتذكر فوراً المشروع الأمريكي للشرق الأوسط وموقع لبنان في المشروع، والسياسة الأمريكية المتبعة من أجل تحقيقه. ففي لبنان، كما هو معروف، فريقان تدعم الولايات المتحدة الأمريكية أحدهما دون تحفظ، وتتهم الثاني بمسؤوليته عن الأزمة واستمرارها وتشن عليه حربا شعواء، وصلت إلى شن حرب فعلية “إسرائيلية” في تموز 2006 بأمل أن تقصيه عن الخريطة، ولا تزال تطالب بمعاقبته وتجريده من وسائل الدفاع عن نفسه بحجة أن هذا يسمح لأحوال لبنان أن تستقيم. والتنازع العربي- العربي على لبنان، إن جاز التعبير، يندرج داخل هذ الموقف الأمريكي، حيث توزع التقسيم الأمريكي مواقف الدول العربية على الأساس نفسه.

أن يتحقق التفاهم العربي- العربي فينتج المبادرة العربية التي خرج بها وزراء الخارجية العرب، قد يفهم منه أن الأطراف المتنازعة على لبنان، عربيا وإقليميا ودوليا، توصلت إلى الإقرار بأن طرفا واحدا منها غير قادر على احتكار لبنان، أو تقرير موقعه على جبهة الصراع على الشرق الأوسط. وبالتالي أصبح من غير الممكن تمكين طرف لبناني واحد من أن يفرض وجهة نظره على لبنان، لكن هذا يحمل في طياته، إن صح، اعترافا بأن المشروع الأمريكي قد فشل على الجبهة اللبنانية، وأن الولايات المتحدة الأمريكية اصبحت على استعداد لترك لبنان وشأنه. لكن الجميع يعلمون أن إدارة بوش لا تستطيع التسليم بهذه المسألة، لأنها تعلم أن انهيار مشروعها على الجبهة اللبنانية سيساهم في انهياره على الجبهتين العربيتين الأخريين في فلسطين والعراق. لقد كان المطلوب أمريكياً، ولا يزال، أن تلعب الجبهة اللبنانية دورا معززا للموقف الأمريكي على الجبهتين الأخريين، والتنازل عن الجبهة اللبنانية يخدم في الاتجاه المعاكس المصالح الأمريكية، و”الإسرائيلية” أيضا، والسماح بحدوث ذلك يعنى قبول أن يواجه المشروع الإمبراطوري كله الفشل التام.

لا شك أنه لا يزال من المبكر تقرير ما إذا كانت المبادرة العربية ستطبق فعلا، لأنه في الإمكان خلق ما يكفي من العقبات وما يجعل تطبيقها صعباً، لكنها لو طبقت فعلا فإنه لا حكمة من زهو كاذب بالانتصار، وتصور أن المشروع الأمريكي قد فشل، وأن الولايات المتحدة الأمريكية قد استسلمت، بل يفترض أن تظل العيون مفتوحة على ما ستتفتق عنه العقلية التآمرية الأمريكية من ألاعيب جديدة يمكن أن تعيد الكرة إلى أرجلها بعد حين.

دائما كنا نطالب بدور عربي فاعل عند حدوث أزمة عربية، وما زلنا نرى أن غياب الدور العربي الفاعل في القضايا العربية هو السبب في كل الانتكاسات والهزائم التي تنتهي إليها هذه القضايا. لقد كان لهذا الغياب دوره الأكبر (أم نقول حضوره في غير مكانه؟!) في مأساة الشعب العراقي، وله دور أكبر في مأساة الشعب الفلسطيني، كما له دور كبير في الأزمة اللبنانية. لكنه حتى يكون هذا الدور كما يجب أن يكون، وتكون له الفاعلية المطلوبة القادرة على حماية البلدان العربية وشعوبها، وحل قضاياها لمصلحة هذه الشعوب، لا بد من أن تكون الدول العربية غير خاضعة للدول الكبرى، وأن تكون المصالح العربية هي أساس المواقف العربية، ويكون الدفاع عن هذه المصالح هو معيار هذه الفاعلية.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)