غالباً ما تسبّب النقاشات السياسية والتحليلات والتقارير بطرح الأسئلة بالمقلوب. وقلب الأسئلة في السياسة، تعريفاً، يعني أن ينطلق السائل بسذاجة أو بخبث نيّة، من نتيجة حدث أو ظاهرة اجتماعية ليبني عليها التساؤلات والاستفسارات، بدل أن يبحث في جذور الحدث. من ضمن ما صبغ الألفية الثالثة من أحداث وملفّات، سؤال جوهري: لماذا لا تتبنّى منظّمة الأمم المتحدة والقانون الدولي العام، تعريفاً موحّداً لمفهوم ومصطلح «الإرهاب».

وأمام الحصار الدائم على قطاع غزّة، وإزاء مسلسل الموت اليومي الذي يتعرّض له الغزّاويّون، يُطرَح نوعان من الأسئلة: أوّلهما، من صنّف الأدبيات السياسية التي تتناقلها وسائل الإعلام ببّغائيّة مملّة؟ هل لا تزال فلسطين «القضية العربية المركزيّة»؟ هل مسموح التعامل مع الواقع الذي فرضته حركة «حماس» عبر حسمها العسكري الذي نفّذته في الثامن من حزيران الماضي في قطاع غزّة؟ هل من الحكمة أن يتحالف ما بقي من اليسار الفلسطيني مع التنظيمات الإسلامية المتشدّدة أو يرمي بندقيته في سلّة السلطة «المعتدلة» المسالمة التي تفاوض الإسرائيليين على أشلاء شعبها؟ لماذا نحن العرب عموماً، والفلسطينيين خصوصاً، «أشرس» في قتالاتنا الداخليّة عمّا نكون عليه ضدّ العدو (الإسرائيلي في الحالة الفلسطينية في الداخل والشتات)؟ يهوديّة الدولة الإسرائيليّة ستحرم مواطنيها العرب من حقّ المواطنية أم تحترم قوميّتهم؟

تخرج من رحم هذه التساؤلات، أسئلة من نوع آخر، أكثر واقعيّة، لكنها «أدنى» سياسيّاً، تبتعد عن الكتب والنظريات والمقالات والتصريحات والاستنكارات: ما الذي يمكن أن يردّ به مواطن من غزّة سيفقد في ساعات أو أيّام، ابنه أو أمّه من بين 1700 فلسطيني سيموتون ميتة جماعيّة في لحظة واحدة فور انقطاع التيار الكهربائي عن الآلات التي تبقيهم أحياء ـ أموات على سرير المستشفى؟

بماذا يواجه غزّاوي آخر، الحصار المفروض عليه شخصيّاً، عندما تصيب والدته العجوز جلطة دماغية ويضطرّ لنقلها إلى أحد مستشفيات القطاع، علماً بأنه لا سيارات في الشارع لكون البنزين مقطوعاً حتى عن سيارات الهلال الأحمر؟ فلسطيني انتظر ساعات أمام فرن ليأتي بالخبز، فلم يُوَفَّق. ماذا يفعل؟ طفلة غزّاويّة نعمت بساعة كهرباء ورأت أترابها على التلفزيون في رام الله يتزيّنّ بأجمل الأزياء الأوروبية في احتفالية عيد الميلاد عند النصارى، ويتلقّين الهدايا السخيّة، وهي لا تملك أكثر من ثياب ورثتها عن أجدادها بعد إجراء عمليات «التضييق» اللازمة ليختبئ جسدها النحيل داخلها. هل يُطلَب منها أن توجّه رسالة أخوّة ومواطنة وسلام إليهنّ في هذه الحالة؟ بماذا يريد عمرو موسى وأصحابه الباغضون لـ«الإرهاب» والعنف واللون الأحمر عموماً أن يردّ هؤلاء؟ بيان الاستنكار جيّد، لكنه غير مجدٍ. البكاء أمام الشاشات واستجداء الحماية من أسطورة «المجتمع الدولي» ابتذال ما بعده ابتذال. مناشدة محمود عبّاس رفع الحصار «فوراً» مثيرة للغثيان. حملات التبرع تخدير للغضب الآتي لا مفرّ.
يخطر جواب قلّما يهمّ إذا كان يقترب من المنطق أو يحاكي «حوار الحضارات»: يخرج المواطن الذي حُرم من الكهرباء والمأكل إلى أقرب نقطة حدودية، ويفعل المستحيل ليصل إلى الطرف الآخر من الحدود، ويفجّر نفسه بمن يلتقيه، أكان مدنيّاً أم عسكريّاً. سترتفع صيحات التنديد بـ«الإرهاب» لا محال. لكن الرجل قال بكبسة الزرّ، إنه لم يعد يملك شيئاً ليفقده وانتهى. وانتهى معه النقاش حول «الإرهاب» وعسكرة الانتفاضة الثانية والمساعي الدبلوماسية لفكّ الحصار..