احذر هذا الرجل.. إنه إنسان خطر لأنه لا يحب الموسيقا

(شكسبير)

نكرر.. نكرر “بوركت أهرامات لبنان الثلاثة: الأرز والحرية وفيروز”.

الهرم الثالث ذاهب ليغني في دمشق، هذه قنبلة لا يستطيع أحد في لبنان أن يتهم سوريا بتفجيرها. والسياسيون الذين اعترضوا على فيروز سجلوا على أنفسهم سقطتين: سياسية وفنية.

في متحف اللوفر في باريس وقف سائح أمريكي أمام صورة الموناليزا، وعندما هم بإعطاء رأيه في اللوحة قاطعه حارس اللوحة الفرنسي: سيدي.. لقد فات الوقت الذي يعطي أحد رأيه في اللوحة.. أنت الآن تعطي رأيك عن نفسك.

ليكن معلوماً: لقد انتهى الوقت الذي يعطي سياسي رأيه بفيروز.. إنها صاروخ فني عابر للحدود وجدران الصمت وبوابات الزنازين الحديدية. هناك 350 مليون فيزا لفيروز مطبوعة على قلب كل عربي، قابلة للتوريث للأجيال القادمة.

كاتب سوري قال في روايته على لسان أحد الموتورين: “نحن نحب لبنان ونكره اللبنانيين”.. ترى هل المعترضون على ذهاب فيروز إلى سوريا هم النسخة اللبنانية من ذلك الموتور؟

سوف يزحف الشعب السوري كله ليحضن ابنته البكر فيروز وليضع على رأسها أكاليل الغار. ففي زمن الانحطاط الطائفي والمذهبي فإن صوتها عابر للأديان والمذاهب والطوائف (ولنا صهلة الخيل من الهند إلى الأندلس).

كذلك في زمن الطغيان السياسي وانحطاطه، يتعطش الناس إلى كبرياء الفنان وعزة نفسه. هل تعرف الأجيال الجديدة قصة فيروز مع الرئيس الحبيب بورقيبة؟

في ستينات القرن الماضي حل الرئيس التونسي وزوجته ضيفين على لبنان لمدة أسبوعين حيث نزلا في واحد من قصور الضيافة. وحيث كان الضيفان مغرمين بصوت فيروز اتصل مدير مكتب رئيس الوزراء (حسين العويني) بعاصي الرحباني هاتفياً وأخبره بلهجة آمرة: حضروا أنفسكم الأسبوع المقبل لتغني فيروز في حفل عشاء لضيف لبنان. فرد عليه الرحباني بغضب: “قل لرئيس حكومتك، عندما تتوقفون عن التفكير بكروشكم اتصلوا بنا”. وأقفل الهاتف.

غضب رئيس الوزراء ومنع إذاعة أغاني فيروز من الإذاعة اللبنانية (لم يكن التلفزيون موجوداً) لمدة سنتين.

طلب الرحابنة موعداً خاصاً لزيارة الرئيس بورقيبة وذهبوا لمقابلته، فاستقبلهم وزوجته السيدة وسيلة بكل ترحاب. شرح عاصي الرحباني ظروف القصة وقال له: “نحن فنانون لا نغني للأفراد ولا للولائم أو المطاعم، بل نحن معنيون بالمسرح الغنائي ونغني للجماهير فقط”.

أعجب الضيف وزوجته كثيراً وقامت السيدة وسيلة بانتزاع خاتم ألماس ثمين من إصبعها وألبسته في اصبع فيروز. بعد دقائق قليلة خلعت فيروز الخاتم من اصبعها وأعادته لصاحبته شاكرة وقالت لها “الهدية وصلت”.

.. إنها كبرياء الرماح عندما تنتصب واقفة.

عندما يعمل غربال التاريخ في أي مكان في العالم، يتساقط السياسيون ويبقى الفنان.. أمثلة ثلاثة:

فيكتور جارا (1932 1973) أشهر عازف للجيتار في أمريكا اللاتينية، قبض عليه الفاشيون العسكر في 12 سبتمبر/ أيلول 1973 ووضعوه في استاد تشيلي في العاصمة سنتياغو حيث تم إعدام عشرات الألوف من اليساريين والوطنيين المعارضين للانقلاب العسكري بقيادة الجنرال بينوشيه، وتم تعذيبه لمدة أربعة أيام متوالية. وقبل إعدامه قطعوا أصابع يديه وطلبوا منه أن يغني، فغنى أغنية ثورية تمجد الجبهة الشعبية بقيادة الرئيس سلفادور الليندي.

وفي العام 2003 سمي الاستاد الكبير باسم استاد فيكتور جارا.

وبعد أسبوع من إعدامه، اكتشف عالم الفلك الروسي نيكولاي شيرنخ كوكباً سماه (كوكب فيكتور جارا رقم 2644) تخليداً لذكراه.

تظل المقولة صالحة أبداً: (بإمكانك أن تسجن المغني لا الأغنية).

غارسيا لوركا شاعر إسبانيا الأكبر، اقتحم الفاشيون بقيادة الجنرال فرانكو منزله في غرناطة وأعدموه أمام باب بيته، ولا تزال هذه اللعنة التاريخية تلحق بفرانكو منذ الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936 وحتى قيام الساعة.

.. التاريخ لا يغفر ولا ينسى قتل الشعراء.

في الوقت الذي وقف فيه أحد فلاسفة أوروبا مبهوراً وهو يشاهد نابليون بونابرت يدخل عاصمة بلاده إذ قال: “لقد رأيت العقل يمتطي حصاناً”، في ذلك الوقت وقف عبقري الموسيقا الألماني بيتهوفن يمزق الاهداء الذي كان وضعه لنابليون كبطل محرر في مقدمة السيمفونية الخامسة (سيمفونية البطولة) وذلك بعد أن تبين له أن نابليون تحول من محرر إلى فاتح امبراطوري محتل، وذلك أمام آلاف الحاضرين لعزف تلك السيمفونية الخالدة.

نعود إلى فيروز العرب بطرفة رواها الياس الرحباني عن رسالة وصلت إلى: (الآنسة فيروز زوجة الأخوين رحباني)، فالذين دعوا فيروز إلى اتخاذ موقف سياسي بعدم الذهاب إلى دمشق، فإن فيروز اتخذت موقفاً سياسياً أكثر نضوجاً هو الذهاب إلى دمشق لتغني لسوريا وللسوريين الذين تحبهم ويحبونها.

هي ثالوث الرحابنة وابنة المدرسة التي تغني:

يا عالمنا القديم... ندر علينا تتحرر

لا الحقيقة بتتخبى... ولا الحرية بتتأخر

ما بيوقف بوجه الكلمة... لا سيوف ولا خيل ولا عسكر.

وفي النهاية: “كما تكونون، يغنى عليكم”.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)