ليس لأنها أقدم عاصمة مأهولة في العالم.. وليس لأنها تعجّ بالأوابد والصروح التي تروي للعابرين آلاف الحكايات.. أو لكثرة أسواقها الأثرية التي تفوح منها روائح تختصر حكاية الشرق كله.. أو أزقتها القديمة التي، وعلى الرغم من ضيقها، إلا أنها اتسعت للجميع، وأسكنت في نفوس عابريها قناعة في أنها بوابتهم ومعبرهم الوحيد إلى العالم.. وليس لأنها مدينة الياسمين الساكن في ثناياها وفي بيوتها.. وليس لأنها ابنة قاسيون والغوطة وبردى.. ليس لكل هذا وغيره مما نعرف عن دمشق، إنما لأنها واحدة من المدن التي تقبل أن تشيخ، ولكن الموت لا يعرف إليها طريقاً.. تستطيع أن تخلع ثوبها الممزق المهترئ بفعل الزمن وعبث أبنائها المشاكسين الذين تحب، لترتدي ثوباً جديداً آخر متحدية الزمن وعبث الأبناء الأشقياء.

هي دمشق الأم ـ الأنثى التي لا تستطيع إلا أن تفتح ذراعيها وأحضانها لزوارها المؤقتين والدائمين، قبل أبنائها.. في قسوتها وفي حنوّها، في بردها وفي دفئها، في تعاليها وتواضعها، في شراستها ووداعتها، وحشتها وألفتها، صخبها وهدوئها، حزنها وفرحها، سخطها ورضاها، جنونها وتعقلها، صرامتها وغنجها، كسلها ونشاطها، ضيقها ورحابتها.. في كل هذا يكمن سرها وسحرها وقدرتها على البقاء والاستمرار والتجدد والاستيعاب لتظل معلنة نفسها أمّاّ لكل من تطأ قدماه ثراها، لينضم مسرعاً إلى ركب الأبناء ـ الأطفال الأشقياء المتعلقين بأذيال ثوبها، الممسكين به حتى آخر حدود العشق.

لأنها المدينة الآسرة، تستطيع أن تسكنك دونما استئذان، وتجترح في نفسك نوعاً فريداً من العشق لا يمكنك أن تمنحه إلا لها.. ترميك أرضاً بإحدى يديها، وقبل سقوطك المدوي، تتلقفك باليد الأخرى.. تقسو عليك هنا وتحنو هناك.. تزرع في روحك وحشة لذيذة قاتلة، لكنها وفي الوقت ذاته تبذر في روحك ألفة أكثر لذة وأشد حياة.. تجلدك بسياط الوحدة والحزن والفقدان كل يوم ألف مرة، وتضمك إلى صدها الحنون الدافئ كل يوم ألف مرة.. تتخلى عنك وتتمسك بك، ترفضك وتقبلك، تجرحك وتداويك، تكرهك وتحبك!!.. أما أنت فلا تستطيع إلا أن تحبها وتذوب في عشقها وتزداد التصاقاً بها حدّ التماهي.. لا تستطيع، وكلما ضقت ذرعاً بها، إلا أن تلجأ إليها وترتمي في حضنها.. كعاشق!!

هي ذي دمشق الأم الكبرى ـ الأنثى..

مصادر
سورية الغد (دمشق)