إثر زيارة الرئيس الأمريكي، جورج بوش تصور بعض قادتنا، الذين سكنهم الوهم بأن هذه الزيارة ستكون فرصة للدفع بمسيرة السلام، التي بدأ ركضنا اللاهث من أجل إنجاحها إثر حرب أكتوبر عام ،1973 مباشرة، وكانت حصيلة رحلتنا الطويلة، بحثاً مضنياً عن سراب، يحسبه الظمآن ماء.

لكن الوقائع جاءت معرية لكل الأوهام، فقبل أن يغادر الرئيس الأمريكي جورج بوش المنطقة العربية عائدا إلى بلاده، بادر الصهاينة يوم الثلاثاء الماضي بارتكاب مجزرة رهيبة، عندما أقدمت قوات الاحتلال على قتل 19 شهيداً وعشرات الجرحى في مجزرة وحشية وقعت في حي الزيتون بقطاع غزة، لتستمر بعدها حملة إبادة بشعة، استهدفت اغتيال قيادات حركة المقاومة، وفرض حصار قاس شمل إغلاق المعابر وقطع الكهرباء وحرمان المدنيين من الماء والدواء، جرائم حرب متواصلة ضد الإنسانية، مؤكدة من جديد، ما سبق أن رددناه مراراً وتكراراً من أن المشروع الصهيوني، منذ بدايته، وحتى يومنا هذا هو مشروع حرب.

أكثر من مليون ونصف المليون من الفلسطينيين أصبحوا يعيشون أوضاعا مزرية وحالاً وواقعاً مريراً. أطفال يصرخون من الجوع، ومنازل تلفها العتمة وزمهرير الشتاء، وقطع للكهرباء، فلا نور ولا دفء أو لحاف كاف، وأمهات تقطعت بهن السبل، حيث لا طعام ولا دواء. ومراكز صحية عاجزة عن تقديم أي شيء بسبب نقص المعدات وما خلفه الحصار. ووزير الحرب "الإسرائيلي"، ايهود باراك يعلن صراحة، وبصفاقة أن القادم أعظم، متوعداً الفلسطينيين باجتياح غزة في حال إقدام حماس على تنفيذ عمليات عسكرية ضد "إسرائيل" رداً على مجازره المتكررة، في الوقت الذي تمارس فيه قواته، أمام نظر العالم بأسره، عمليات القتل العمد بحق الفلسطينيين، من المدنيين العزل.

لقد أكدت أحداث غزة، بما لا يقبل الجدل، جملة من الحقائق لعل أهمها أن السلام العادل، لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل توازن عسكري استراتيجي عربي، تدعمه الإرادة والتصميم على نيل الحقوق. وأن التسليم والتفريط، مآله تقديم المزيد من التنازلات. إن السلام الحقيقي هو الذي يحقق الأمن، وليس ذلك الذي يقود الأمة إلى أنفاق مسدودة، يكون من نتائجها مزيد من الاحتراب والصراع بين أبناء الوطن الواحد، ومزيد من التمزق والتفتيت والضياع.

وأكدت هذه الحوادث أيضاً، أن على العرب الاعتماد على أنفسهم، وعلى قواهم الذاتية من أجل انتزاع حقوقهم، دونما تعويل على مساندة من الخارج. فلا الشرعية الدولية أثبتت قدرتها على حماية الفلسطينيين، ولا الوسيط الأمريكي أثبت موقفاً نزيهاً ومحايداً.

لقد فشلت الأمم المتحدة طيلة العقود الماضية في تقديم أي شكل من أشكال العون لحماية المدنيين الفلسطينيين من القصف الهمجي الصهيوني. أما الوسيط الأمريكي، فإنه لم يترك أي فسحة، لتفسير موقفه بغير الانحياز الفاضح للخصم. فهذا الوسيط، الذي اصطبغت سياسته، في السنوات الأخيرة، بوجه استعماري فاقع وقبيح، جعل من بلاده مستعمراً محتلاً لأرض عربية بتاريخ عريق، هي العراق، لا يمكن الثقة بأنه سيقف مع الحق والعدل، عندما يتعلق الأمر بحقنا في العزة والكرامة، واسترداد أرضنا ومقدساتنا.

ليس بإمكان العرب، بعد كل ما جرى في غزة، الوثوق في خارطة طريق، صممتها إدارة أطلقت العنان للكيان الغاصب لإبادة الفلسطينيين، معتبرة مقاومة الشعب المظلوم لاسترداد حقوقه إرهاباً ينبغي التصدي له بقوة. ليس ذلك فحسب، بل إن هذا الوسيط لم يتردد في تقديم وعد يقضي بتأييد قيام "إسرائيل" بسلخ الكتل الاستيطانية الصهيونية الضخمة عن الضفة الغربية، تحت ذريعة أن أي تسوية سياسية يجب أن تراعي الحقائق القائمة على الأرض، خارقاً بذلك قرارات الأمم المتحدة باعتبار المناطق التي جرى احتلالها من قبل الصهاينة في حرب عام 1967 أراضي محتلة لا ينبغي المساس بها. وقد جاء الموقف الأمريكي المنحاز تجاه جدار الفصل العنصري الذي يخترق الأراضي الفلسطينية المحتلة بالضفة الغربية، ويلتهم مساحات واسعة منها، متسقاً مع مواقفه الأخرى تجاه الفلسطينيين.

ليس ذلك فحسب هو مستوى التحيز الأمريكي الفاضح للكيان الصهيوني، فقد ألغى بوش حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وأكد يهودية دولة "إسرائيل"، ودعا إلى إنشاء دويلة فلسطينية، تفتقر إلى مقومات السيادة، هزيلة ومجزأة ومقطعة الأوصال، على قطعة من أرض فلسطين التاريخية، لا تمثل سوى جزء صغير من الأراضي التي احتلها الصهاينة في عام ،1967 دويلة محاطة بالتجمعات الصهيونية الاستيطانية الكبيرة، لا تضم مدينة القدس، التي ستظل وفقاً لتصريحات قادة الصهاينة ولرسالة الضمانات التي أرسلها بوش لشارون عام ،2006 العاصمة الأبدية الموحدة للكيان الغاصب، دويلة يرابط الجنود المحتلون على معابرها وعلى حدودها مع الأردن ومع مصر، ويقررون من يسمح له بدخولها أو الخروج منها، دويلة كانتونات معزولة عن بعضها بعضاً، ومحاطة بالمستوطنات وجدار الفصل العنصري.

لم يقف أمر الوسيط عند هذا الحد من التحيز، فقد أعلنت الإدارة الأمريكية أن القضاء نهائيا على حركة حماس في غزة هو شرط لنجاح أي مفاوضات سلام. وتبع ذلك إعلان قادة الصهاينة أن غزة "كيان معاد". وبالتأكيد فإن تزامن الإشارة إلى ضرورة القضاء على حماس، واعتبار غزة كياناً معادياً، هو المقدمة اللازمة لإعداد مسرح الجريمة، بمتواليات منطقية. إن القضاء على حماس، يقتضي بالضرورة القيام باجتياح عسكري واسع للقطاع، واستباحة "الكيان المعادي" من قبل الصهاينة، وتدميره والتنكيل بأهله، وجعلهم عرضة للموت بالقصف أو بالمرض أو الجوع.

وما دام الوسيط، قد أعطى الضوء الأخضر للعدوان، بمباركته وتأييده لتصفية حماس، وطردها من السلطة في غزة، وما دام حلفاؤه "المتحضرون" قد باركوا أيضاً هذه التصفية، فسوف يواصل العدو حرب الإبادة وجرائم القتل حتى نهايتها، في ظل مباركة دولية، وصمت عربي ثقيل، وكئيب.

أصوات عالمية محدودة جداً، عبرت، وسط هذا التعتيم عن سخطها واستيائها من العدوان الصهيوني، على غزة، وكسرت حاجز الصمت لعل أبرزها وأشجعها، وصف خبير الأمم المتحدة، جون درجارد ل"الإسرائيليين" بالقتلة، واعتبارهم مجرمي حرب، ينبغي أن يحاكمهم العالم على جرائمهم.

وكان الصوت الآخر، هو صوت مقرر اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في الغذاء، جان زيغلز، الذي وصف الوضع في القطاع بأنه مأساوي. وترك الأرقام تتحدث عن نفسها، مشيراً إلى أن هناك 65% من سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة يعانون سوء تغذية دائماً. وهناك 5.15% من الأطفال دون سن العاشرة يعانون تشوهات عصبية نتيجة سوء التغذية. الماء مشكلة كبيرة جداً. نحو 80% من المياه الجوفية سواء في الضفة أو في القطاع تصب إما في "إسرائيل" أو في المستوطنات. وفي ما يتعلق بالحصار فإن هناك 285 من المدن والقرى الفلسطينية معزولة بالكامل نتيجة حصار جيش الكيان العبري. والنتيجة أن النشاط الزراعي أصبح محدوداً جداً، على رغم أن الأرض شديدة الخصوبة.

أما البيت الأبيض فقد جاء على لسان ناطقه، غوردن جوندرو: "أن الإدارة الأمريكية تأمل من "الإسرائيليين" تحري الدقة في ضرباتهم ضد الناشطين، وندعو الفلسطينيين الكف عن قتل "الإسرائيليين" الأبرياء"، "إن "إسرائيل" تمارس دفاعاً شرعياً عن نفسها"، لكن المرجو منها أن تتخذ "الخطوات الممكنة" لتفادي إلحاق الأذى بالمدنيين على غرار ما تقوم قواتنا المسلحة في العراق وأفغانستان.

إنها إذن ليست لحظة امتحان لمصداقية الوسيط الأمريكي، بل امتحان للذين راهنوا على احتمال بروز موقف نزيه. إنها لحظة امتحان لمصداقية الانتماء إلى هذه الأمة، ولمدى الالتزام بالمعايير الأخلاقية والدينية والإنسانية التي نلتزم بها، حين ينتخى الشرف العربي والكرامة العربية، واستغاثات الأرامل والثكالى ودماء الشهداء، وجراحات الصغار. ولحظة امتحان أيضاً لكل المواثيق والمعاهدات، التي وقع عليها القادة العرب، وبضمنها ميثاق الأمن القومي العربي الجماعي، ومعاهدة الدفاع العربي المشترك، حين يوضع الموقف الصحيح على المحك. وهي فرصة أيضاً، قد لا تعوض، لتأكيد تلاحم الأمة، وتفاعل مكوناتها التاريخية والثقافية والروحية، ليس فقط ليتسامى الفلسطينيون فوق الجراح ويعيدوا وحدتهم الوطنية، بل ولتؤكد الأمة العربية جمعاء، قياداتٍ وشعوباً للعالم بأسره حضورها من جديد، في لحظة مفصلية وعصيبة من تاريخها.

آن للغضب العربي أن يتفجر، مستلهماً من نضالات وتضحيات أبطاله درباً وقبساً، ليجعل من دماء الشهداء العزيزة التي سالت، ولا تزال تسيل في كل مكان من الأرض العربية مانعاً مائياً عظيماً، يحول دون العبور إلى ضفاف الخنوع والتسليم والهزيمة. ولنجعل من صمود غزة، ومن نجمة الصبح، فلسطين مسرى الرسول، ومهد المسيح، كما كانت أبداً، أرضاً لا تتقن غير اللغة العربية.