لم تكن الجموع تثير انتباهي... كان المعبر ينهار وتسقط في داخلي الأيام القديمة منذ أن شاهدت جدتي غياب العلم المصري وحتى اليوم، ولم اكن أفكر سوى بصور المتاجر وبالأصوات التي تتعالى، متتحول الجغرافية إلى فضاء بشري يتمواج على إيقاع "الحاجة" والقلق على الأطفال والجوع الخانق.

كان بودي التمرد... تكسير الصور القديمة والمسافات التي تفصل أكبر معتقل بشري عن العالم، فغزة إرادة حبيسة... غزة نبض بشري محجوب عن العالم.. وغزة ليست بنادق ومفاوضات سياسية وحاجة للوقوت والغذاء والماء... فهي الأصوات التي تتعالى من حولي ووجوه اعتدت عليها ورسم عليها زمان ملامحه الخاصة.

لأطفال غزة لحن لا يعرفه العالم.. لحن من عاش في المخيم الكبير، المعتقل الذي فاق تصور البشرية لحشر الناس في أضيق مكان وأوسعه في نفس الوقت، فهو بلدي التي اعتدت عليها، وتآلفت مع صخبها وصوت انفجارات الصواريخ أو إيقاع الاغتيالات، فهي غزة التي تتركني رغم الموت أرفع رأسي، ورغم المظاهر التي أرفضها أقبل وجوه أبنائها وترابها كل يوم.

وأتذكر على معبر رفح كل التنقلات التي كانت تقودني نحو "فتح" و "حماس" وباتجاه الوحدة وأنا أشاهد المروحيات الإسرائيلية تحوم، فأعرف أن نوحا وإرادة ستظهر بعد قليل... فهل أحد اختبر صورة الاستعداد للموت؟!!

في غزة نعرف الموت القادم قبل دقائق من ظهوره أو بريقه أو حتى اختلاطه مع الدم الحار والشاب في شوارع المدينة، ونعرف أن السماء التي اعتدنا صفاءها يمكن أن تلوح لنا بإنذار القتل القادم، فلا نهرب لأننا لا نملك أي مفر... ونبقى عالقين ما بين الموت والحياة، ثم نصور أنفسنا على شاكلة التحدي...

غزة قضية تحدي وإرادة مهما اختلفت تسمية التيارات التي تتغلغل فيها... وغزة على معبر رفح جموع بشرية تريد البقاء ملوحة بقدرتها على البقاء رغم الموت الذي يحاصرها.. غزة ورائي وسأدخلها بعد قليل لأعيد الكرة فيها بعد أن تنفست هواء سيناء من جديد...