لم تكن مشكلة سورية في تباين المواقف بينها وبين أوروبا أو حتى الولايات المتحدة الأمريكية، فخلال الحرب الباردة كان من الطبيعي، أو ربما من المنطقي أن تحمل السياسة الدولية مثل هذا الافتراق، ولم يكن التعامل مع دمشق يفرض إيقاعا واحدا، فالتباين كان يعني الحوار، وكان بالنسبة للتحليلات الدولية انعكاسا لانقسام العالم بين قطبين.

حتى في العلاقات مع الاتحاد السوفياتي كان هناك نقاط ساخنة رغم نوعية التعاون التي ربطت موسكو بدمشق في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي. ورغم أننا نستطيع تفسير التركيز على تباين موقف سورية مع العالم إلى "نوعية" السياسة الأمريكية، أو لـ"ازدواجية" المعايير، أو حتى تحميل الإعلام مثل هذه المسؤولية، لكن في العمق فإن المسألة أكثر تعقيدا، لأنها انعكاس لثقافة سياسية بدأت تفرض نفسها منذ بداية التسعينات، لكنها اكتسبت قوتها بعد عام 2000.

عمليا فإن المؤتمر الصحفي لوزيري الخارجية السوري والهولندي يوم الخميس الماضي تعكس نوعية هذا الفهم السياسي للمنطقة، الذي يعتبر أن الخلافات القائمة في المنطقة هي من نفس النوع الذي كان سائدا خلال الحرب الباردة، وأنه بالإمكان إدارتها أو تصفيتها بعد انتهاء أشكال الصراع بعد الحرب العالمية الثانية.

ما يحدث اليوم وفق النموذج السوري يؤكد أن هذا الفهم السياسي غالبا ما يوصل الطرفين إلى اعتماد مصطلحات غير دقيقة لتوصيف الخلاف بينهما:

 فسورية التي تتحدث دائما عن ازدواج المعايير يُطرح أمامها حزمة سياسية كاملة من الأزمات التي تتطلب من دمشق "دورا" إقليميا منسجما مع "المرحلة الجديدة".

 وأوروبا التي ترى فرصا سياسية في أنابوليس، أو "الحوار" الفلسطيني - الإسرائيلي تستمع في نفس الوقت من قبل دمشق إلى غياب الدور الأمريكي الضاغط على إسرائيل، أو لعدم وجود رغبة إسرائيلية في السلام.

هذا النموذج ينسحب على الموضوع اللبناني والعراقي والفلسطيني، ويخلق نوعا من "تشويش" الاتصال نتيجة "شطب" التاريخ المعاصر للمنطقة من قبل أوروبا في مقابل حضور كامل لهذا التاريخ من الجانب السوري. ففي أدبيات التعامل مع ازمات المنطقة لم يعد بالنسبة للسياسة الغربية عموما أي جغرافية للقرارات الدولية أو حتى لمشروعية المبادرات التي ظهرت منذ عام 1990، وهو أمر يفترض أن تسوية تسير بدون ذاكرة أو إرث سياسي.

في المقابل فإن مصطلح "دول الممانعة" التي تتعامل مع هذا الإرث السياسي تحتاج إلى استخدام هذه الممانعة كـ"قوة" اجتماعية بدلا من تحييدها داخل الحوار السياسي، لأن التعامل مع تاريخ الصراع لم يعد ممكنا طالما ان هناك ثقافة فرضت نفسها على مجمل عملية السلام.

لا يكفينا اليوم أن نملك "المصطلح" أو الإرادة المعبرة عن الحق، لأن الفهم السياسي الجديد يحتاج إلى أدوات ثقافية بالدرجة الأولى لا تعبء المجتمع لأن مهيء بحكم إرث الصراع، ولكن تساعده على امتلاك الأدوات للتعامل مع التحول الثقافي والسياسي الذي تسارع مع بداية هذا القرن.