لأكثر من خمسين عاما لازلنا نكرر الحديث والتغطية الإعلامية عن "حصار" المدن الفلسطينية كما نجتر مرارة خياراتنا التاريخية الخاطئة وتأخرنا عن نجدتها في كل مرة.

وفي كل مرة كنا نحاول تجميل الهزيمة، بحثا عن مخرج يساعدنا على "حفط ماء وجهنا" العربي المشوه بتكرار الخيانة.

ومهما بلغ التضليل حد الوقاحة اليوم، ومهما بلغت السياسية حد الاستلاب، تبقى مفردة "الحصار" ليست البديل المناسب لتغطية "المحارق" و"التصفية العرقية" التي تمارس ضد غزة.

ليس منع الماء والغذاء عن المدنيين حصارا.

وليس تعطيل المستشفيات ومنع الدواء عن المرضى حصارا.

وليس قتل الأجنة في الحاضنات حصارا.

ما يحدث في غزة محرقة فلسطينية، وتصفية عرقية ضد شعب كبر ولم تأته الحياة، ويموت الآن ولازال يعانق حلما مهترئا بها بعد أن استهلكته خطاباتنا السياسية وشعاراتنا العربية.

يصعب الحديث عن غزة وسط المحارق دون تذكر "الفرص النادرة" للسلام، و"المفاوضات" التي لن تتوقف.

تدفع غزة ثمن السلام الذي يجري التفاوض عليه وتعكس شوارعها اليوم طبيعته.

يقيم الاحتلال الإسرائيلي فرص السلام بحجم الموت الفلسطيني ومساحة "الفرص النادرة" أيضا لزيادته. ويبدو أنه كلما ازداد الموت في غزة بات السلام أكثر قربا، لأن تصفية أكثر من مليون ونصف فلسطيني ثمن كاف لاقتناص "الفرص النادرة".

ويبدو أن غزة هي هدية السلام، تعبيرا عن الشهوة العربية القديمة في التوصل إليه مع إسرائيل.

فهل تستطيع غزة النجاة بنفسها وسط العتمة التي تغزو شوارعها وعقولنا في الوقت ذاته. وهل يستطيع شعب غزة مواصلة الحياة على الماء الملوث كما واصلها من هم خارج غزة على تلوث خياراتهم السياسية؟

قبل غزة، بل قبل فلسطين بكاملها، كان لون السلام أزرق، لكن إسرائيل وحلفاؤها يرونه اليوم أجمل ملونا بالدم الفلسطيني.