عندما كان عبدالله بدوي رئيس الوزراء الماليزي يتحدث في مدريد في «المنتدى الأول لحوار الحضارات» في منتصف الشهر الجاري عن القيم السامية المشتركة بين الأديان، وتقارب الحضارات، وضرورة سيطرة التسامح والانفتاح على الآخر، كان يحدث في ماليزيا شيء آخر. كانت احتجاجات قيادات المسيحيين والسيخ والهندوس والبوذيين الذين يبلغون 40 في المئة من سكان البلاد تتصاعد ضد قرار للحكومة الماليزية يحظر استخدام لفظة الجلالة «الله» على غير المسلمين. نصّ القرار الذي تزامن صدوره، للمفارقة الساخرة، مع إنعقاد المنتدى المذكور على أن تلك اللفظة هي من حق المسلمين وأن استخدامها في صلوات غير المسلمين يخلق ارتباكاً وبالتالي يجب منعهم من استخدامها، رغم أنها اللفظة الأساسية في اللغة الملاوية المعتمدة لدى معظم، إن لم يكن كل، تلك الطوائف للدلالة على الخالق.

وعندما كان ممثلو الاتحاد الأوروبي يتحدثون عن التعددية الثقافية في القارة الأوروبية وضرورة التعايش بين المسيحيين والمسلمين بما يعكس ترجمة واقعية لتحالف الحضارات، كان المتطرف غيرت فايلدرز النائب في برلمان هولندا وزعيم حزب «الحرية» اليميني، البلد العريق في مجال الحريات والتسامح، يواصل شتائمه ضد القرآن الكريم، ويزعم ان تعاليم الاسلام تحض على العنف والكراهية. كما ان النائب نفسه يعد فيلما عن القرآن لم تفلح كل جهود الحكومة الهولندية في ثنيه عن عرضه في الأيام المقبلة، ما قد يتسبب في اندلاع احتجاجات على نطاق واسع في هولندا وفي البلدان الإسلامية، ربما تعيد مسلسل ردود الفعل على الرسوم الدنماركية وتصريحات البابا بنديكتوس السادس عشر السنة الماضية.

كانت تلك الأحداث «الجزئية» الصغيرة وغيرها ربما من العشرات أو المئات المشابهة التي تنتمي إلى «صدام الحضارات» لا الى تحالفها، لا تني تحدث وتتحدى كل النيات الطيبة لأكثر من ألف وخمسمئة سياسي ومفكر وناشط وحقوقي وإعلامي، من كل دول العالم احتشدوا في لقاء مدريد. رؤساء دول ورؤساء وزراء، ملوك وملكات، أمراء وأميرات، وجدوا جنباً إلى جنب مع أكاديميين وصحافيين وممثلين عن منظمات غير حكومية. الهم الذي يستحوذ على الجميع هو وقف «التدهور» في المناخ الحضاري لعالم اليوم. أو ما يمكن وصفه بـ «الانحباس الحضاري» الذي يسيطر على بيئة العلاقات الدولية والبشرية الراهنة. خلفية اللقاء وفكرة «التحالف» واضحة: تفاقم الأفكار المدمرة، وتفاقم السياسات الأكثر تدميراً. السؤال الذي غاب عن اللقاء هو أن «داخل» كل حضارة «مفترضة» يعاني من خراب مخيف وأن إصلاح تلك «الدواخل» لا يقل أهمية، إن لم يسبق، أهمية إصلاح الخراب في ما بين تلك «الحضارات».

نظرياً، يمكن القول إن أطروحة صاموئيل هانتينغتون حول «صدام الحضارات» نوقشت حتى ابتذلت. جل النقاش النظري والأكاديمي، الرصين منه والرغائبي، في السنوات الماضية الكثيفة الأحداث كان نقداً وتقويضاً لتلك الأطروحة. لكن كثيراً من صراعات ما بعد الحرب الباردة، وتحالفاتها، وجنون حروبها بين البلدان أو في داخلها كانت غير بعيدة عن الواقعية البشعة التي عبرت عنها الهانتنغتونية. أو على الأقل أُدركت تلك الصراعات من قبل ملايين الناس، وبعيداً عن رؤى النخب وتحليلاتها، من خلال مناظير صدام الحضارات. وتبلور اليمين الديني حيثما حل، مسيحياً أم يهودياً أم إسلامياً، وأعاد تشكيل نفسه في موقع الحليف الأهم، وأحياناً المُطبق الأكثر حماساً، لمنطق الصدام. وصارت «البوشية» و «البنلادنية» هما أفضل تعبير عملاني للهانتنغتونية وكلاهما يعبر عن يمين خاص به.

لكن، وكما نُوقش كثيراً أيضاً، كان تعبير «صدام الحضارات» استخداماً ترميزياً للصدام بين الغرب والإسلام، وهو الصدام الأكثر إلحاحاً في تصور صائغ النظرية، وفي تصور كثيرين ممن وافقوه على ما جاء فيها. وكان هاجس «الخطر الإسلامي» الصاعد بديلاً عن «الخطر الشيوعي» هو المحرك، بسوء نية أو نتيجة سذاجة تحليل، الذي حقق شعبوية فائقة للهانتنغتونية في أوساط الأصوليات السياسية والدينية هنا وهناك. وعلى الأرض كان إرهاب 11/9 الرافعة المنتظرة لتوالي حروب و «غزوات» وبناء تصورات كاشفة للتجلي العملي والابتذالي لفكرة صدام الحضارات. تلقف «المحاربان» بن لادن وبوش ما كان قد خطه «المنظر» هانتنغتون، وانقسم العالم، بحسب رؤية الثلاثة، إلى أخيار واشرار، إلى «فسطاطين»!

على خلفية بائسة كتلك، خلفت حروباً ودماءً لا تزال تسيل، قدم عقلاء اسبان وأتراك فكرة «تحالف الحضارات»، كرؤية مضادة لما انساق إليه العالم من كراهيات راهنة، وبأمل أن تتحول تلك الفكرة، على الأقل في جوانب منها إن لم يكن كلها، إلى واقع يكافح الخراب الذي نراه يتفاقم منذ سنوات. وقدمت إلى الأمم المتحدة في تشرين الاول (أكتوبر) 2005 كي تُناقش ويتم تبنيها أممياً، ثم تصبح جهداً جماعياً. ومنذ ذلك الوقت ثمة نقاش واستشارات تدور حول الفكرة والأوجه العملية لتنفيذها. طبعاً من ناحية فلسفية بحتة يعاني تعبير «تحالف الحضارات» من اختلالات بعضها واجه أيضاً فكرة «صدام الحضارات». فهنا ثمة افتراض بأن «الحضارة» كتلة موحدة صماء وأن مكوناتها متوافقة ومنسجمة ضماً، وتشكل فيما بينها نسقاً متناغماً من الأفكار والثقافة والتعايش والتصورات. لكن الواقع التاريخي يعلمنا بغير ذلك، فالفروقات والصراعات داخل تكوين كل حضارة من الحضارات هي فروقات بالغة الحدة، واحياناً تتجاوز في حدتها الفروقات (المفترضة) مع الحضارات الأخرى. على ذلك فكيف لـ «الحضارات» أن تتصادم أو ... أن تتحالف؟ ثم من هو، أو من هم، الناطقون باسم كل حضارة؟ هل الحكومات العربية والإسلامية ناطقة مثلاً باسم العرب والمسلمين أو الحكومات الغربية ناطقة باسم الغربيين؟ لكن هذه الجوانب من النقد تظل أقرب الى التمرين الأكاديمي، والنظرة العملية والواقعية هي الإقرار بقدر من التوزيع الحضاري والثقافي الذي يستوطن مخيلات وإدراكات البشر بعمومهم، ولهذا فإن المهم في الموضوع هنا، صداماً أم تحالفاً، هو ما ينتج عنه على الأرض.

المساهمة العربية الرسمية في فكرة «تحالف الحضارات» ومنذ أن اطلقت كانت ولا تزال متواضعة. وقد انعكس ذلك على الحضور الرسمي الباهت في مدريد مقارنة بالحضور الأوروبي أو التركي أو الآسيوي. فالسياسي الرسمي الأهم كان رئيس الوزراء الجزائري، وفيما عداه فإن عدداً من الأسماء العربية الكبيرة حضرت بصفتها المعنوية وغير الرسمية، وأهمها الشيخة موزة المسند زوجة أمير قطر، والملكة نور العبدالله زوجة العاهل الاردني الراحل والأمير تركي بن عبدالعزيز، وللثلاثة منهم ولحسن الحظ كان ثمة حضور ومساهمة مهمان عوضا نسبياً عن الغياب العربي الفادح. الشيخة موزة أطلقت مبادرة تمويلية بمبلغ مئة مليون دولار لتأهيل الشباب في المنطقة العربية ومكافحة البطالة بكونها احدى بُنى اليأس والنقمة المولدة للتطرف والعنف.

أما الهم التركي الأبرز الذي ردده رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان ثم وزير خارجيته في أكثر من جلسة في المنتدى فهو الرغبة الشديدة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي الواقع فإن المحك والتحدي الأكبر والأهم في تجسيد جوهر فكرة «التحالف» على الأرض هو هذه المسألة: هل تقبل أوروبا المسيحية بعضوية تركيا المسلمة في مشروعها الاتحادي الناجح؟ إنه تحدي «الحدود الدامية» المتصادمة التي خطها هانتنغتون في تقطيعه للحضارات وحشرها وراء تلك الحدود. وفي هذه الحالة يكون انصهار تلك الحدود بين تركيا وأوروبا هو الهزيمة الفعلية والحقيقية لفكرته تلك. وحظي الأتراك في مؤتمر مدريد بتأييد لا بأس به من قبل أصوات مؤثرة مهمة كانت حاضرة في اللقاء. لكن لا يزال قسط كبير من التحدي يقع على كاهلهم في الآن ذاته ويتمثل في تحقيق الاشتراطات التي تفترضها عضوية الاتحاد الأوروبي ليس فقط اقتصاديا, بل ايضا على مستويات حقوق الإنسان وخاصة بالنسبة الى المسألة الكردية، وتحييد دور الجيش في السياسة، وضمان عدم تهديد الفصل القائم بين الدين والدولة.

ثمة جوانب إيجابية وواعدة أخرى في لقاء وفكرة «تحالف الحضارات». أولها سيطرة يوتوبيا على الحوار والتفاهم ومحاولة مواجهة الاستعصاءات التي تحيق بهما. وثانيها الاهتمام البارز والمحق بدور الإعلام كونه أحد أهم الآليات المشكّلة للمواقف والإدراكات المسبقة عند الرأي العام في معظم مناطق العالم. وتمت ترجمة ذلك الاهتمام عبر تخصيص حلقات وورش عمل خاصة تركز على ابتداع أفكار قابلة للتطبيق الإعلامي ومساهمة في جوهر التقارب الحضاري. ولعل مبادرة زوجة العاهل الاردني بتأسيس صندوق تمويل لدعم الأفكار والمبادرات الإعلامية، كالأفلام الوثائقية، أو الدرامية، أو غيرها، وتعهدها بالقيام بحملة تبرعات لجمع مئة مليون دولار لذلك الصندوق، هي واحدة من أهم النتائج العملية للقاء «التحالفي». يُسجل أيضا «للتحالف» تركيزه على أن السياسة هي جوهر مسألة «الإنحباس الحضاري» الذي يواجهه عالم اليوم، وليس الدين أو الإختلاف الثقافي، على أهمية ما ينتجه الاثنان من مناخات احتمالية قد تؤدي الى أي من الإتجاهات، التصادمية أو التحالفية، وبحسب الظروف المُشكلة. فعمق المظالم والانتهاكات الطويلة الأمد للحقوق الانسانية الأولية والاحتلالات العسكرية الأجنبية والقضايا الملحة الكبرى، كفلسطين والعراق اللتين طرحتا كثيراً، لم تغب عن النقاشات، ووضعت في موضعها الصحيح.

مصادر
السفير (لبنان)