قالت وزارة الخارجية المصرية إن مصر تريد ان تسيطر السلطة الفلسطينية برئاسة الرئيس الفلسطيني محمود عباس على المعبر الحدودي بينها وبين قطاع غزة وأشارت في بيان صدر يوم 28 يناير إلى أن وزير الخارجية المصري أحمد ابو الغيط بعث برسائل شفهية الى عدد من وزراء الخارجية الأوروبيين ووزيرة الخارجية الامريكية.
وأكد أبو الغيط في رسائله على "أهمية تفهم المجتمع الدولي لضرورة عدم تكرار اجراءات العقاب الجماعي الاسرائيلي ضد سكان القطاع لما ينتج عنها من تداعيات سلبية وغير إنسانية مشيرا الى أهمية تعاون الجانب الاسرائيلي مع الجهود الحالية لتنظيم عمل المعابر".

مثل تدفق الآلاف من الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الأراضى المصرية بعد تفجير أجزاء كبيرة من الحواجز الحديدية، مشهدا فريدا لم يحدث من قبل وبقدر ما أسهم جزئيا فى تخفيف حدة الحصار المضروب من قبل الاحتلال الإسرائيلي، بقدر ما شكل مشكلة كبرى أمنية وسياسية بالنسبة لمصر بوجه خاص.

جزء من هذه المشكلة حال وسريع، ويتطلب البحث عن حل لإعادة هؤلاء الآلاف إلى أراضيهم بأقل الخسائر الممكنة مع الحفاظ على أرواح الفلسطينيين والجنود المصريين معا، أما الجزء الآخر فيتعلق بالمدى الأبعد نسبيا، ويتعلق بكيفية تنظيم التدفق الآمن بين الحدود المصرية الفلسطينية.

كلا الأمرين لا يتمان كما هو واضح فى بيئة عادية، وإنما فى بيئة مغلفة بكافة أنواع الضغوط المتضاربة والآتية من كل حدب وصوب، وهنا وجه آخر للمشكلة التى تراها مصر الرسمية قد صُـدّرت إليها دون أن تكون طرفا مباشرا فيها.

فوفقا للاتفاقية التى تنظيم حركة العبور بين الأراضي المصرية والفلسطينية تحت الاحتلال، هناك شقان، أولهما يتعلق بتنظيم العبور للأفراد من الجانب الفلسطينى، وهو ما يتم تحت رقابة مشتركة فلسطينية إسرائيلية أوروبية، أما الجانب المصرى فتنظمه الإجراءات المصرية المعتادة. ولكنها فى الآن نفسه تراعى ما توصلت إليه السلطة الوطنية مع الاحتلال الإسرائيلى من قبل.

مثل هذا الوضع لم يعد معمولا به كما هو معروف بعد السيطرة الكاملة لحماس على القطاع فى منتصف يونيو الماضى. فغياب السلطة والأوروبيين عن القطاع مثل فرصة ذهبية للاحتلال الإسرائيلي للتنصل من التزاماته إزاء فتح الحدود بين غزة والأراضى المصرية، وهى النقطة الوحيدة بين القطاع والعالم الخارجى، بل إنه وظف هذا الإغلاق لإحكام الحصار على أهل القطاع.

القاهرة والادعاءات الظالمة

وبقدر ما شكل هذا الوضع مشكلة للقاهرة، لاسيما وان إغلاق المعابر الدائم له آثاره المباشرة والخطيرة على الوضع الإنسانى فى القطاع وعلى الوضع الأمني، وهو ما اعتبره كثيرون مشاركة مصرية عملية فى إحكام الحصار المضروب على غزة فى ظل سلطة الأمر الواقع فيها بقيادة حماس، والتى لم ترد القاهرة أن تعالج الأمور معها مباشرة منعا لإضفاء شرعية على الوضع غير الطبيعى فى القطاع.

وفى حين جاء الرد المصرى دائما بأنها ليست طرفا فى الاتفاقات التى تنظم العبور فى الاتجاهين، بما يعنى أنها ليست مسؤولة مباشرة عما يحدث هناك بالفعل. فى الوقت نفسه كان على القاهرة أن تواجه الادعاءات الإسرائيلية والأمريكية بأنها لم تقم بما يكفى لضبط عمليات التهريب التى تحدث عبر الأنفاق للأسلحة والسلع المختلفة، والتى وصلت كما هو معروف إلى حد استخدام هذه الادعاءات لحجب 100 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية الأمريكية المقررة لمصر.

كما وصل الأمر إلى اتهامات إٍسرائيلية مباشرة ومدعومة أمريكيا بأن السلطات المصرية جزء من المشكلة فى حين أنه يجب أن تكون جزءا من الحل، أو بعبارة أخرى اكثر صراحة الادعاء بأن مصر "شريك فى تهريب الأسلحة والأفراد" ومن ثم "شريك فى انتهاك أمن" إسرائيل.

ومع قرار إٍسرائيل إحكام الحصار المضروب على غزة وتحويله إلى سجن كبير وقطع كل الحاجات الأساسية عن أهله، تحول الوضع إلى نذر كارثة إنسانية كبرى، خاصة وأن النداءات المصرية لإسرائيل بالتراجع عن سياسة العقوبات الجماعية لم تجد أى صدى إيجابى مناسب، بل كان القرار الإسرائيلى (حتى بالرغم من إعادة تزويد القطاع بالحد الأدنى من الاحتياجات الإنسانية)، هو المزيد من الضغوط على الفلسطينيين فى القطاع، فى الوقت نفسه تحذير مصر من مساعدة القطاع على التخفف من أزمته الإنسانية.

ضغوط الشارع وحسابات الدولة

لم تنته القصة عند هذا الحد، فالضغوط الإسرائيلية والأمريكية رافقتها ضغوط أخرى وإنما فى اتجاه آخر، هى ضغوط الشارع المصرى والعربى التى دعت القاهرة إلى كسر الحصار وفتح الحدود أمام الفلسطينيين وتزويدهم بما يحتاجونه من سلع ومؤن وخدمات طبية وأدوية. بل إن جزءا من هذه الضغوط دعا إلى سحب السفراء وتجميد العلاقات مع تل أبيب، وهو ما اعتبره الرئيس مبارك ليس حلا، لأنه يفقد مصر وسيلة التواصل مع تل أبيب.

هذه الجملة من الضغوط المتضاربة تداخلت أيضا مع حسابات الدولة المصرية الأساسية، على مستوى الأمن القومى من ناحية والالتزام المبدئى ناحية القضية الفلسطينية من ناحية أخرى.

وللوهلة الأولى، بدا الأمر متعارضا أيضا، فإن سمحت مصر بفتح الحدود وهناك قوة أمر واقع تعتبرها القاهرة ليست شرعية، فقد يبدو الأمر تأييدا لها وضربا لشرعية الرئيس محمود عباس الذى تؤيده القاهرة رسميا، ناهيك عن توتر مؤكد مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة.

أما إن تغاضت عن الكارثة الإنسانية التى أخذت فى الظهور فى القطاع فسوف يكون الأمر متعارضا مع الالتزام المبدئى ناحية الفلسطينيين ناهيك عن الدخول فى مواجهة داخلية، حدثت إرهاصاتها بالفعل مع الشارع المصرى المناصر والضاغط بقوة من أجل فتح الحدود مع غزة وليكن ما يكون.

ضغوط القاهرة المضادة

ولفترة قصيرة فضلت مصر أن تمارس هى نفسها ضغوطا مضادة على أطراف الأزمة؛ تجاه إسرائيل من أجل التخفيف من الحصار الإنساني والبحث الجدى فى المطالب المصرية زيادة حجم قوات حرس الحدود فى سيناء، وتجاه السلطة وحماس من أجل التواصل وإنهاء الوضع الغريب القائم فى القطاع، وتجاه الولايات المتحدة من أجل الضغط على إسرائيل لممارسة نوع من ضبط النفس وتذكيرها بالوعود الخاصة بدفع عملية أنابوليس. وفى الخلف من كل ذلك القيام باتصالات عربية موسعة لشرح الموقف المصرى وتعقيداته.

هذه الحسابات التى سعت لإيجاد مخرج سلمى دخلت طورا جديدا مع تفجير الحواجز الحدودية فجر الرابع والعشرين من يناير الجارى، وما تبعه من تدفق عشرات الآلاف من أبناء القطاع على رفح المصرية و العريش للتزود باحتياجاتهم الأساسية. و

من بين هذه الحسابات الجديدة التى أضيفت إلى المعادلات السابقة، كيفية إعادة أبناء القطاع إلى أراضيهم، وربما شكل هذا الأمر الجزء الأيسر، أما الجزء الأصعب فتعلق بالتلميحات الإسرائيلية بأن يصبح القطاع فى عهدة مصر بصورة كاملة، وأن تتخلى إٍسرائيل بالتالى عن مسؤولياتها عن القطاع. وهو ما رفضته مصر جملة وتفصيلا، فضلا عن تلميحات أمريكية بأن الوضع الجديد هو مسؤولية مصر، وليس مسؤولية الحصار والاحتلال كما هو معروف للكافة ما عدا واشنطن وتل أبيب.

رفض مصرى نهائى

الرفض المصرى له دواعيه المنطقية المستندة إلى الالتزام المبدئى بوحدة القضية الفلسطينية جغرافيا وسياسيا، وبكون المسؤولية الحقيقية عن أزمة القطاع - وإن عادت جزئيا لحسابات فلسطينية خاطئة - فإن السبب الأول والأخير هو الاحتلال الإسرائيلى وغياب عملية سلام حقيقية، والمناورات الإسرائيلية للتملص من استحقاقات هذه العملية.

يذكر هنا أن هذا المطلب الإسرائيلى يعود عمليا إلى مباحثات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل فى العام 1978، التى انتهت إلى توقيع معاهدة السلام بين البلدين، وهو ما رفضته مصر فى حينه، كما رفضته كلما طرحته تل أبيب رسميا أو إعلاميا أو من قبيل الضغط على القاهرة.

أمران لا تراجع عنهما

فى غمرة هذه الحسابات المتداخلة والمعقدة، تصر القاهرة على أمرين، أولهما عدم السماح بأن يتحول القطاع إلى سجن كبير أو يتحول إلى كارثة إنسانية بفعل الحصار الظالم، فثمة مسؤولية مصرية معنوية وقومية لا فكاك منها وهو ما أكده الرئيس مبارك أمام أبناء الشرطة المصرية فى عيدهم بقوله "إن مصر لن تسمح بتجويع الشعب الفلسطينى فى غزة". والثانى أن يتم تسوية الأمر بما يراعى حسابات الأمن المصرى وعدم الدخول فى أزمات مفتعلة مع القوات المصرية فى رفح من جهة، والالتزامات المتبادلة وفقا للمعاهدة مع إسرائيل من جهة ثانية، واستعادة الوفاق الفلسطينى من جهة ثالثة.

مصريا يبدو مدّ الفلسطينيين بالمواد الغذائية وضروريات الحياة الأخرى مسألة محسومة من حيث المبدأ ، وما السماح للفلسطينيين بدخول الأراضي المصرية وشراء ما يسد رمقهم ويعالج البعض من آلامهم إلا تطبيق لهذا المبدأ ولكن فى ظل حالة استثنائية جدا، أما تحوله إلى عملية معتادة وطبيعية، فتلك بدورها دورة أخرى من الحسابات المعقدة، تبدأ بضرورة التنسيق الفلسطينى الداخلى، ونوعا من الاتصال مع حركة حماس، وموافقة إٍسرائيلية وقبولا أمريكيا، وكل من هذه المدخلات بحاجة إلى مفاوضات شاقة قد تتطلب أسابيع عدة وربما شهورا طويلة.