تطل علينا في هذا الشهر (شباط/فبراير 2008)، ذكرى مرور خمسين عاماً على قيام الجمهورية العربية المتحدة في 22 شباط/فبراير ,1958 التي وحدت مصر وسوريا، دون دراسات كافية للأوضاع الداخلية فيهما، والتي انتكست عام 1961 وأدت إلى الانفصال بينهما، والى تخلف الفكر الوحدوي والمؤسسي حينئذٍ من اللحاق بالعمل السياسي الوحدوي وتدعيمه وتسهيل مهمته، وكذلك بسبب الأوضاع الإقليمية والدولية التي ساهمت مجتمعة في ذلك الانفصال. وقد تم التركيز على هذا الانفصال، وكذلك على المحاولات الفاشلة لتوحيد مصر وسوريا والعراق في «الوحدة الثلاثية» عام ,1963 وكذلك فشل محاولات توحيد ليبيا ومصر والسودان في السبعينيات، ومحاولة توحيد سوريا والعراق عام ,1979 وذلك لضرب مسألة الوحدة العربية عموماً، مع إهمال وتناسٍ متعمد للمحاولات الوحدوية الأخرى الناجحة والمستمرة التي تمت في الوطن العربي خلال القرن العشرين. كما تم إهمال الاتجاه العام في العالم نحو التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى، كما حصل في قيام الاتحاد الأوروبي الذي يشمل حالياً معظم الدول الأوروبية، وقيام منطقة التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، وكذلك التكتلات الاقتصادية والسياسية التي حدثت في جنوب شرقي آسيا وفي أفريقيا وغيرها حيث لم تعد الكيانات الصغيرة قادرة على المنافسة في ظل العولمة، كما تطلّب التقدم العلمي والثقافي مشاركة أكثر من دولة أوروبية لصنع طائرة الإيرباص والطائرة الحربية الأوروبية.

كما تم التركيز الإعلامي على فشل التكتلين الإقليميين العربيين اللذين حدثا عام 1988 وقيام «مجلس التعاون العربي» الذي ضم مصر والعراق والأردن واليمن، وقيام «اتحاد المغرب العربي» الذي ضم بلدان المغرب العربي: موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس، وليبيا، وانفراط عقد التجمع الأول بعد حرب الخليج عام ,1991 وجمود التجمع الثاني بسبب الخلافات التي نشبت بين أعضائه وحالت دون تفعيله حتى الآن، وغياب الديمقراطية الحقيقية في بلدان هذا التجمع التي لم تتح الفرصة لشعوب هذه البلدان في تطوير هذا التجمع وتفعيله ولتتقدم به إلى مراحل متطورة أخرى. كما تم في الوقت نفسه تغافل مبالغ فيه لتجربة «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» الذي أقيم عام ,1980 الذي لا يزال مستمراً حتى الآن، والذي مهما قيل في تباطؤ تحقيق الأهداف من قيامه، إلا أنه حقق قفزات نوعية خلال السنوات الخمس الأخيرة وبخاصة في اجتماع قمته الأخيرة (الدورة الثامنة والعشرين للمجلس الأعلى للتعاون لدول الخليج العربية) التي عقدت في الدوحة خلال الفترة 3ـ4 كانون الأول/ديسمبر ,2007 والتي تمخضت عن قرارات هامة لتعزيز الترابط بين أعضاء المجلس وكان أهمها «قيام السوق الخليجية المشتركة» اعتباراً من أول عام ,2008 وهو إنجاز ستتبين أهميته، رغم تأخره، بعد قليل.

وفي ما يتعلق بالوحدة بين مصر وسوريا وقيام الجمهورية العربية المتحدة عام ,1958 فقد تم التركيز على الانفصال الذي تم بين شطريها عام ,1961 دون إعطاء الاهتمام والدراسة الكافيين لأسباب الانفصال من عوامل داخلية وقصور وتخلف فكري وحدوي ومؤسساتي عن العمل السياسي الوحدوي، وعوامل إقليمية ودولية، حيث ساهمت دول إقليمية عربية وأخرى دولية في تشجيع وتمويل الانفصال، دون تجاهل للعوامل الداخلية.

وتم التغاضي عن الوحدات الجزئية التي قامت في أجزاء من الوطن العربي، ولا تزال راسخة ومتماسكة، رغم بعض الهزات في بعضها وتباطؤ الاندماج في بعضها الآخر. فقد تم خلال النصف الأول من القرن العشرين توحيد أجزاء من الجزيرة العربية وقيام المملكة العربية السعودية في دولة اندماجية مركزية، وهي تجربة وحدوية ناجحة بغض النظر عن أية ملاحظات حول نظامها السياسي وحول أسلوب تحقيقها وعما إذا كان من الممكن اتباع الأسلوب نفسه في تحقيق وحدات جزئية أو كبرى مماثلة في القرن الحادي والعشرين. وكما تم توحيد ليبيا الحالية بقرار من الأمم المتحدة في الخمسينيات في دولة اندماجية مركزية ولا تزال قائمة رغم أية ملاحظات حول طبيعة الحياة السياسية فيها وأية ملاحظات حول الأوضاع الداخلية والتوجهات والممارسات الخارجية لها. كما تم اتحاد بعض الإمارات العربية في الخليج عام 1971 وقيام «دولة الإمارات العربية المتحدة» في اتحاد فيدرالي تم الحفاظ عليه حتى الآن، رغم عدم النجاح الكافي في تطويره وتعميق وحدته وإقامة مؤسسات ديمقراطية حقيقية تحافظ عليه وتطوره، ولكن أمكن الحفاظ على هذا الاتحاد وتطويره رغم هذا التوحيد.

كما تم عام 1990 توحيد شطري اليمن الجنوبي والشمالي، في دولة مركزية، لا تزال مستمرة، رغم محاولة الانفصال الفاشلة (عام 1994)، وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية الداخلية والإقليمية، لمحاولة القضاء على التجربة الديمقراطية الوليدة في اليمن وعلى الحريات النسبية والتعددية الحزبية والسياسية رغم كل الملاحظات عليها، والحاجة إلى معالجة حقيقية للمشاكل القائمة في جنوب اليمن والتداول الحقيقي للسلطة، ولكنها تجربة متقدمة بالمعايير النسبية على بقية الأنظمة السياسية في بلدان الخليج العربي الأخرى، وهو عامل يساهم في اتجاه عكسي للضغط على هذه التجربة الديمقراطية الوليدة في اليمن والتعتيم عليها خليجياً، ولكن وبقدر استمرار هذه التجربة الديمقراطية الأولية في اليمن فإنها ستفرض من خلال إشعاعها على محيطها في الخليج العربي تطورات ايجابية على النظم السياسية في بلدان الخليج العربي عموماً.

ويمكن أن نستخلص من كل ذلك أنه إلى جانب انتكاسة تجربة الوحدة بين مصر وسوريا وانفصالهما فيما بعد، وعدم نجاح بعض المحاولات التوحيدية بين مصر وسوريا والعراق، وبين العراق وسوريا، إلا أنه كانت هناك تجارب وحدوية جزئية ناجحة نسبياً ومستمرة، كما تم في قيام المملكة العربية السعودية، وليبيا، ودولة الإمارات العربية المتحدة، والجمهورية اليمنية، والمهم هو دراسة أسباب نجاح المستمر منها ووسائل تطويره، وأسباب فشل بعضها وعدم تحققها، للاستفادة من تلك الدروس في مواصلة تطوير العمل الوحدوي العربي.

[[[

ومن المفيد الإشارة هنا إلى بعض الدروس والعبر التي تم استخلاصها من التجارب الوحدوية العربية الناجحة والفاشلة منها. فقد حصلت تطورات هامة في الفكر القومي العربي في قضية الوحدة العربية، كان منها الموقف من الدولة القطرية العربية. فبسبب إخفاق الدولة القطرية العربية في تحقيق التنمية الحقيقية، والأمن الوطني القطري، والتقدم العلمي والتقني، والحياة الديمقراطية الحقيقية، وبسبب محدودية عدد الدول القطرية العربية آنذاك، فقد كان موقف الفكر القومي العربي عموماً خلال النصف الأول من القرن العشرين هو اعتبار الدولة القطرية عقبة في تحقيق الوحدة العربية. إلا أنه حصل تطور في موقف الفكر القومي العربي من مسألة الدولة القطرية العربية خلال الثلاثين سنة الأخيرة، رغم فشلها، وتمثل هذا التطور في «مصالحة الفكر القومي العربي مع الدولة القطرية العربية»، بسبب تكاثر عددها، وترسخ وجودها، رغم فشلها المشار إليه سابقا، وأن أي توجه نحو أية وحدة عربية جزئية أو شاملة، يجب أن ينطلق من الدولة العربية القطرية نفسها، وفي إطار يأخذ بنظر الاعتبار التجارب الوحدوية الناجحة في العالم التي عالجت وتغلبت على هذه العقبة، مثل تجربة الاتحاد الأوروبي، التي تتضمن الحفاظ على الكيانات القطرية السياسية، مع تنازلها جميعاً عن جزء كبير من سيادتها القطرية إلى مؤسسات اتحادية تتولى قدراً متزايداً من الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدفاعية القطرية.

كما حصل تطور هام في الفكر القومي العربي خلال الثلاثين سنة الأخيرة في ما يتعلق بشكل الوحدة، حيث تم التخلي في غالبية هذا الفكر القومي، عن مبدأ الدولة الوحدوية الاندماجية المركزية، والتحول إلى صيغة الوحدة الاتحادية أو ما تسمى أحياناً «الوحدة الفيدرالية»، حيث إن اتساع الوطن العربي، وتزايد عدد الوحدات القطرية فيه، لم تعد تصلح أو تسمح بقيام وحدة اندماجية، وإن صيغة «الوحدة الاتحادية» هي الصيغة الأكثر ملاءمة لأي توحد عربي مستقبلي، وهو ما انتهى إليه مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي، الذي قام به مركز دراسات الوحدة العربية خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين ونشر تقريره العام عن المشروع بعنوان:«مستقبل الأمة العربية: التحديات... والخيارات»، حيث تم تبني المشهد (السيناريو) الثالث، وهو خيار الوحدة الاتحادية.

كما حسم الفكر القومي العربي في «وسيلة تحقيق الوحدة العربية»، وأن تتم بخيار ديمقراطي وموافقة شعبية حقيقية، واستبعاد كل الوسائل الأخرى غير الديمقراطية التي تمت ممارستها سابقاً وبالقوة، سواء في قيام المملكة العربية السعودية، أو في قيام وحدات أوروبية سابقاً مثل توحيد ألمانيا. ولذلك، أصبح تحقيق الديمقراطية الحقيقية في الأقطار العربية مقدمة وشرطاً ضرورياً لأي عملية توحيد عربية جزئية أو شاملة.

كما لم يعد الفكر القومي العربي يصر على صيغة «الوحدة العربية الشاملة»، وأصبح من المقبول فكرياً وعملياً قيام وحدات عربية جزئية، تكون منفتحة على انضمام أقطار عربية أخرى إليها في ما بعد على ضوء نجاح تلك الوحدات الجزئية واقتناع أقطار عربية أخرى بالانضمام إليها.

كما أصبح مقبولاً لدى الفكر القومي العربي، الاستفادة من التجارب العالمية في أشكال توحيدها، وأن هناك مستويات مختلفة لهذه الاتحادات: اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ودفاعية؛ وأنه ليس من الضروري أن يشترك جميع دول هذا الاتحاد في جميع مستويات الاتحاد، بل يمكن أن يشتركوا في مستوى واحد وأكثر منها دون الاشتراك في جميع مستوياتها، كما حصل ويحصل في الاتحاد الأوروبي، حيث إن هناك دولاً أعضاء في هذا الاتحاد، مثل المملكة المتحدة (بريطانيا) وهي لا تشارك في العملة الموحدة للاتحاد الأوروبي (اليورو)، كما لا يشارك بعضها في مستويات أخرى من الاتحاد الأوروبي. ويترك عادةً لهذه الدول الأعضاء الحق في أن تشارك في المستويات الأخرى التي لم تشارك فيها ابتداء، إذا ما وجدت مصلحة لها في ذلك، وعلى ضوء التجربة الفعلية لنتائج تطبيق كل المستويات الأخرى من الاتحاد.

[[[

كما تمّ الاعتراف والاهتمام المتزايد بمقومات الفكر القومي العربي و«المصالح المشتركة»، وان تكون للقطر الذي يدخل في أي مشروع وحدوي «مصلحة قطرية»، إضافةً إلى المقومات الأخرى للوحدة، من وحدة اللغة والتاريخ المشترك، ومتطلبات الأمن القومي العربي الحقيقي الذي يتعذر تحقيقه قطرياً، وتعذر تحقيق تنمية عربية حقيقية على المستوى القطري إلا من خلال الوحدة، وكذلك وحدة المصير المشترك.

[[[

ورغم البطء ومحدودية التطور الذي رافق نشأة وتطور «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» إلا أن السنوات الأخيرة شهدت انجازات هامة لهذا المجلس، وبخاصة اجتماع قمته الأخيرة، التي تمثل انجازاً متميزاً، وبارقة أمل وحدوية قادمة من الخليج العربي.

فإضافةٍ إلى قيام منطقة التجارة الحرة بين دول المجلس عام ,1983 وقيام الاتحاد الجمركي بين دول الاتحاد في أول عام ,2003 واتخاذ خطوات فاعلة لقيام الوحدة النقدية والعملة الخليجية الموحدة عام 2010 (مع احتمال تخلف سلطنة عمان عن اللحاق بها في هذا التاريخ)، تبرز مشاريع التكامل في مجال البنية الأساسية، والتقدم الذي تحقق في تنفيذ مشروع الربط الكهربائي بين بلدان الخليج، وما تحقق من إنجاز جزئي في مشروع البطاقة الشخصية (البطاقة الذكية) واستخدامها في تسهيل التنقل بين دول المجلس، ودراسة الجدوى الاقتصادية لمشروع سكة الحديد لربط دول المجلس التي تمّ إعدادها، وكذلك دراسة الجدوى الاقتصادية لمشروع الربط المائي، التي يتمّ إعدادها، والتي من المتوقع أن يتمّ البت فيها جميعاً في اجتماع الدورة القادمة (القمة) التاسعة والعشرين التي ستعقد خلال هذا العام في سلطنة عمان.

إلا أن الإنجاز الوحدوي الأهم، ذا الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، الذي تحقق خلال اجتماع القمة الأخيرة في الدوحة بقطر، هو إعلان قيام السوق الخليجية المشتركة اعتباراً من أول عام 2008 الحالي، التي ستتضمن استفادة مواطني دول المجلس من قيام هذه السوق، وتعميق المواطنة الخليجية وتحقيق المساواة التامة في المعاملة بين مواطني دول المجلس في ممارسة الأنشطة الاقتصادية وتنقل رؤوس الأموال، والاستثمار بجميع أنواعه، والعمل، والاستفادة من الخدمات التعليمية والصحية في جميع دول المجلس. كما تم تشكيل «لجنة السوق الخليجية المشتركة» كلجنة دائمة تتبع لجنة التعاون المالي والاقتصادي التابعة للمجلس، لمتابعة سير العمل في السوق الخليجية المشتركة في ضوء قرارات المجلس الأعلى، والاتفاقية الاقتصادية، وتقييم المرحلة التي وصل إليها التطبيق في كل جانب من جوانبها، ودراسة ما يواجه التطبيق من صعوبات وعقبات واقتراح الآليات اللازمة لتذليلها وإزالتها.

إن قيام «السوق الخليجية المشتركة» ووضعها موضع التنفيذ اعتباراً من أول العام الحالي، وما تضمنته من إقرار المواطنة الخليجية الكاملة، وإنشاء «لجنة السوق الخليجية المشتركة لمتابعة التنفيذ ومعالجة وتذليل العقبات»، هو إنجاز وحدوي هام بكل المعايير والمقاييس الموضوعية، والذي لا شك في أن التحضير الذي تم له وإقراره ووضعه موضع التنفيذ، ونجاح تطبيقه، سيمثل نموذجاً مشعاً ودعوة صريحة وصارخة للأقطار العربية الأخرى للاستفادة من هذه التجربة والاقتداء بها وعدم التقليل من أهميتها، بل تسليط الضوء عليها، وبيان أهميتها وقابليتها للتطبيق بين أقطار عربية أخرى.

كما يجب الاهتمام بدراسة الجدوى الاقتصادية التي يقوم مجلس التعاون بها لمشروع سكة الحديد لربط بلدان المجلس، وأن تتم الدراسة أخذاً بنظر الاعتبار مشروع السكة الحديدية لربط البلدان العربية جميعها، والذي كان قد أعدها الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى مشروع الطريق العربي الذي كان الصندوق قد أعدّه للغرض نفسه (1) ، وان تتولى حكومات بلدان مجلس التعاون والبلدان العربية الأخرى ذات الموارد النفطية المهمة (مثل العراق وليبيا والجزائر) تمويل الجزء الخاص من السكة الحديدية العربية في الأقطار العربية غير القادرة حالياً على توفير هذا التمويل، من خلال تقديم قروض لها بدون فوائد لهذا الغرض. ولعله من المفيد أن نذكر هنا الدور الذي لعبه مد السكة الحديدية في الولايات المتحدة في توحيدها، وتأثير ذلك على النمو الاقتصادي فيها (2).

كما يجب الإسراع في تنفيذ الجسر المقترح بين قطر والبحرين وان تساهم قطر في معالجة العبء المالي التي قد لا تكون البحرين قادرة على تحمله، لأهمية بناء هذا الجسر الذي سيساهم بربط بلدان مجلس التعاون جميعاً فيما بينها.

[[[

ورغم هذا الإنجاز الوحدوي الكبير، فإنه لا بد من إبداء بعض الملاحظات التالية لتكون موضع اهتمام حكومات وشعوب بلدان مجلس التعاون الخليجي:

1ـ إن مجلس التعاون الخليجي بحاجة ماسة وملحة لمعالجة موضوع العمالة الوافدة، وغير العربية منها بشكل خاص. فالإحصاءات التي نشرت مؤخراً تشير إلى أن نسبة العمالة الوافدة تبلغ حوالى 39 بالمئة من مجموع سكان بلدان مجلس التعاون الخليجي (المواطنين والوافدين)، وأن هذه النسبة تصل إلى حوالى 80 بالمئة في بعض بلدان المجلس وإلى 90 بالمئة من مجموع الأيدي العاملة فيها. ويشكل استمرار ذلك خطراً حقيقياً على عروبة بلدان مجلس التعاون الخليجي، وهناك مخاوف حقيقية من أن تضطر خلال العقدين أو الثلاثة القادمة، وتحت مظلة حقوق الإنسان، إلى إعطاء الإقامة الدائمة لبعض أو أغلبية الوافدين فيها، ثم إعطاء الجنسية المحلية للذين يولدون منهم في تلك البلدان، وأن يتم تحت شعار «حق تقرير المصير» تحويل معظم هذه البلدان (عدا السعودية) إلى حكم أكثرية تملك هويات آسيوية، ويصبح «مواطنو» معظم هذه البلدان حالياً «أقليات» في بلدانهم الأصلية، وما قد يترتب على ذلك من نشوء مشكلة عربية خطيرة لا تقل أهمية عما جرى لفلسطين، بخاصة أن تابعية معظم هذه العمالة الوافدة هي لدولتين آسيويتين نوويتين. هذا إضافة إلى المخاطر الاجتماعية والثقافية التي تترتب على الوجود المكثف لهذه العمالة الوافدة غير العربية في بلدان المجلس (3).

تحتاج معالجة هذه الأخطار المحتملة إلى أن تعي حكومات وشعوب بلدان مجلس التعاون الخليجي هذه الأخطار وإتباع سلسلة من السياسات العاجلة لتفادي تلك الأخطار وفي مقدمتها: إحلال العمالة الوطنية محل العمالة الوافدة كلما أمكن ذلك، والتغلب على ما يقدم من سبب لتفضيل العمالة الوافدة على الوطنية من رخص الأولى بالمقارنة بالثانية، وذلك باتباع سياسات تفرض على القطاع الخاص استخدام نسبة معينة من العمالة الوطنية، وأن تقدم حكومات تلك البلدان الدعم المالي للقطاع الخاص لتحمل الفرق بين كلفة العمالتين عليها، وأن يتم تدريب العمالة الوطنية على حساب حكومات هذه البلدان لتحل محل بعض العمالة الوافدة، وهي سياسة تتبعها سلطنة عُمان بنجاح ملحوظ وتحتاج إليها بقية بلدان المجلس للاستفادة من تلك التجربة.

إضافة إلى ذلك، وحيثما تضطر هذه البلدان إلى استمرار استخدام عمالة وافدة، أن تعطى الأولوية لاستخدام العمالة العربية، وبخاصة من بلدان عربية غير خليجية لا تشكل أية مخاطر أمنية عليها، مثل مصر والسودان والأردن وتونس والجزائر والمغرب، وإدخال التعديلات اللازمة على قوانين الإقامة والجنسية بحيث يعطى الحق لمن يعمل فيها لمدة معينة بالإقامة الدائمة والعمل والتملك له ولأولاده. لقد آن الأوان أن تتطلع حكومات هذه البلدان الخليجية إلى قوانين الإقامة والجنسية والتملك في بلدان غربية متقدمة مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وكندا واستراليا وغيرها، والتي استفاد ويستفيد منها بعض سكان بلدان مجلس التعاون أنفسهم.

ومن الحلول الجذرية الأخرى لمعالجة مشكلة العمالة الوافدة غير العربية في بلدان مجلس التعاون هو قبول اليمن في عضوية المجلس، والتي أبدت رغبة في ذلك، والتي تم تشكيل لجنة مشتركة بين المجلس وبينها لبحث مجالات التعاون المشترك، دون القبول المبدئي بعضويتها في مجلس التعاون. وهذا الموقف المتردد والرافض حتى الآن لعضوية اليمن في مجلس التعاون يعطي الانطباع بأن حكومات بلدان مجلس التعاون الحالية تريد المحافظة عليه كـ«نادٍ للأغنياء». ولعله من المفيد أن يدرس مجلس التعاون تجربة الاتحاد الأوروبي مع إسبانيا قبل دخولها إلى الاتحاد، والتي كانت في وضع قريب الشبه من وضع اليمن حالياً مع مجلس التعاون، حيث وضع الاتحاد الأوروبي (وكان يومها يسمى الجماعة الأوروبية) برنامجاً خاصاً لتطوير إسبانيا بتمويل من الجماعة الأوروبية قبل أن تنضم إسبانيا إليها، والتي أصبحت بعد انضمامها من الدول الأوروبية المتقدمة. ولذلك يمكن لليمن بانضمامها إلى مجلس التعاون أن تتطور كما تطورت إسبانيا من خلال الاتحاد الأوروبي وأن تكون مجالاً رحباً للاستثمارات الخليجية التي يتسكع بعضها في الغرب، وأن تحل إلى حد كبير مشكلة العمالة الوافدة غير العربية في بلدان مجلس التعاون، خاصة بعد بدء تطبيق «السوق الخليجية المشتركة» وما تضمنته من تحقيق «المواطنة الخليجية».

2ـ إن بعض بلدان مجلس التعاون تقوم على أساس مورد طبيعي أساسي (النفط والغاز) قابل للنضوب، مهما كان طول مدة استخراجه، وإن مشروع قيام أية دولة هو مشروع طويل الأمد ولا يمكن أن يتم على أساس مورد قابل للنضوب، مهما طالت مدته، ولذلك تحتاج هذه البلدان لمواجهة احتمالات المستقبل للأجيال القادمة فيها إلى تبني سياسات تواجه هذه الحقائق بموضوعية وجدية، مهما كانت صعوبتها وصدمتها.

3ـ عبثاً تحاول بلدان مجلس التعاون أن تتبنى سياسة دفاعية مشتركة وقوة دفاعية مشتركة، لأنه ليست لديها مجتمعة الحد الأدنى من توفير مقومات مثل هـذه السياسـة، ولأنه لا يمكن، أن يكون هناك عملياً «أمن قومي خليجي» بمعزل عن «الأمن القومي العربي» مهما حصلت، طوعاً أو مكرهة، على أسلحة أميركية وغير أميركية، إلا باللجوء إلى اتفاقات أمنية ودفاعية مع بعض الدول الكبرى، مع كل ما يرتبه ذلك من قيود على سيادتها وأخطار عليها. وهي بحاجة إلى التفكير جدياً في إقامة «أمن خليجي» يكون جزءاً من الأمن القومي العربي، وتفعيل اتفاقية الدفاع العربي المشتركة وإقامة جيش عربي مشترك، على غرار حلف الأطلسي والقوات المشتركة فيه، يساهم في حماية أمنها، وبكلفة أقل مما تصرفه على أسلحة لا تحقق الأمن لها، وأن تكون إيران جزءاً من هذا الأمن القومي الخليجي ـ العربي حيث إنه بدون أن يكون العرب جميعاً طرفاً في هذا الأمن الخليجي ـ الإيراني، فإن دخول بلدان مجلس التعاون وحدها في اتفاقية أمن خليجي مع إيران لا يحقق لها الضمانات الأمنية القومية اللازمة، بسبب عدم تكافؤ الطرفين: الخليجي والإيراني.

[[[

كانت الذكرى الخمسين لقيام وحدة مصر وسوريا بالجمهورية العربية المتحدة، مناسبة للإطلال على موضوع الوحدة العربية ووضعها في إطارها العربي والإقليمي والدولي، وبيان أهمية ما حصل مؤخراً في مجلس التعاون بقيام «السوق الخليجية المشتركة» وما يمكن أن يمثله من نموذج قدوة للعرب الآخرين. ومهما كانت العقبات الحالية في طريق قيام اتحادات عربية أخرى، جزئية أو شاملة، فإن هذا هو طريق المستقبل للأمم الحريصة على مستقبلها ومستقبل أجيالها. كما يجب أن نتخلى عن «حتمية الوحدة العربية»، لأنها قد تتحقق وقد لا تتحقق، ولأن تحقيقها مرتبط بإرادة وعمل أبنائها، وتفعيل ذلك مرتبط بتحقيق الديمقراطية الحقيقية في الأقطار العربية ومشاركة شعوبها في القرارات المصيرية الخاصة بهم، وهو آت مهما طال السفر!

([) مدير عام مركز دراسات الوحدة العربية

ـ تنشر هذه المقالة بالاتفاق مع مجلة «المستقبل العربي» التي يصدرها «مركز دراسات الوحدة العربية».

مصادر
السفير (لبنان)