ترجمة: إياد ونوس

برلين—يتحدث ديلتيف مليس ببطء. لذلك عندما يقول "لم أر كلمة واحدة في تقريره خلال السنتين الماضيتين تؤكد بأنه حقق أي تقدم" هنالك وقت للغوص في معنى عبارته.

إن الشخص الذي يشير إليه السيد مليس هو سيرج براميريتز، القاضي البلجيكي الذي، حتى فترة قريبة، كان على رأس تحريات الأمم المتحدة التي تنظر في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري في شباط 2005. في كانون الأول تلك السنة، تسلم السيد براميريتز من سلفه السيد ميليس رئاسة فريق التحريات الدولي، المعروف باسم المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في اغتيال رفيق الحريري. الآن، يقدم السيد ميليس اتهاما جديا بأن السيد براميريتز ربما لم ينجز الكثير خلال عمله على قضية الحريري.

في 14 من شباط تكون الذكرى الثالثة لمقتل الحريري في تفجير كبير، مع 21 آخرين في بيروت. أثار الحادث على مدى اسابيع تظاهرات كانت موجهة ضد سورية، التي حملها معظم اللبنانيون مسؤولية الحادث، مطالبين إنهاء الوجود العسكري السوري الذي استمر 29 سنة في لبنان.

قادت الحركة المعروفة باسم "ثورة الأرز" إلى تحول في النظام السياسي عندما سحبت سورية جيشها، وحصل معارضو الوجود السوري على غالبية المقاعد في البرلمان في الانتخابات التي تلت ذلك. ومنذ ذلك الوقت، حاولت دمشق تأكيد نفوذها في لبنان، لكن التحقيقات في مقتل الحريري، إن وجهت إصبع الاتهام إلى سورية، ستكون بمثابة "كعب آخيل" لها.

أنشأ مجلس الأمن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان تحت البند السابع لميثاق الأمم المتحدة لمحاكمة المتهمين. وإنشاء المحكمة، التي مقرها الآن هولندا، يعتبر استثنائيا، كما كانت المحكمة الجنائية للتحقيق في اغتيال الحريري. وهذا الأسبوع، كشف مسؤول في الأمم المتحدة بأنه تم اختيار القضاة. لم يسبق وأن قام مجلس الأمن بالإشراف على التحقيق في اغتيال سياسي.

ومع مغادرة السيد براميريتز لبنان لتولي رئاسة المحكمة المتعلقة بيوغوسلافيا السابقة، قرر السيد ميليس التحدث. تعتبر فرصة نادرة أنه قرر القيام بذلك علنا، وهي الأخيرة، على حد تأكيده. وبصفته أحد كبار القضاة في مكتب الإدعاء الأعلى في برلين، فإنه متحمس جدا لإغلاق الجزئ الخاص به فيما يتعلق بسنوات عمله مع المحكمة الجنائية الدولية في قضية اغتيال الحريري، مع تأكيده بأن أهمية التحري في قضية اغتيال الحريري قد تتلاشى. "تم تشكيل محكمة جديدة، لهذا يعتبر وقتا ملائما لتلخيص الجزء المتعلق بي" على حد قول السيد ميليس.

سواء كانت المحكمة الجنائية الدولية استثائية أم لا، فقد جعل السيد ميليس منها فرصة للظهور كرجل استثنائي كقاض، مظهرا تصميمه خلالها. وقد أظهر مثل هذا التصميم سابقا. وقد تطلب الأمر منه تسع سنوات للوصول إلى المسؤولين عن تفجير نادي "لابيل" للديسكو في برلين عام 1986. اتهم مسؤولين ليبيين بالوقوف وراء الهجوم. وتلك التجربة، كما يقول، تركته مع قناعة بأن "العدالة ستظهر لا محالة، لكن عليك التحلي بالصبر".

لكن من الواضح أن السيد ميليس قلق من ألا تظهر العدالة في قضية اغتيال الحريري. يبدو أنها "فقدت الأهمية التي كانت لها حتى كانون الأول 2006" على حد قوله. ويضيف "عندما غادرت منصبي كنا قد توصلنا إلى أسماء المشتبه بهم، لكن لا يبدو أن هناك أي تطور حدث منذ ذلك الوقت".

بالفعل، لم يقم السيد براميريتز بتسمية أي من المشتبه بهم في هذه التحقيقات، لكنه ذكر بأنه توصل إلى تحديد هوية "الأشخاص المستفيدين" من الحادث. لكن السيد ميليس ينتقد ذلك بالقول "إذا كان لديك متهمين، فإنك لا تسمح لهم بالتجول بحرية لسنوات وإخفاء الأدلة".

يرى السيد ميليس قيام خلفه بإعادة فتح ملف تحليل مسرح الجريمة عند وصوله إلى لبنان أمرا غريبا. فل يؤدي ذلك إلى إثارة الشكوك في المنهج الألماني فقط، بل أضاعت وقتا ثمينا. وقد كانت النتائج التي توصل لها السيد براميريتز تؤكد ما توصل إليه سلفه، وهي أن الحرير قتل في تفجير فوق الأرض.

يرى السيد ميليس مثل هذا السلوك دليلا على مشكلة أكبر وهي أن المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في مقتل الحريري قد قدمت لنا القليل مما لم نعرفه قبل تسلم السيد براميريتز رئاستها: بأن الحريري قتل لأسباب سياسية وأن هناك عدة جهات شاركت في المؤامرة. وتساءل ضاحكا "هل كنا بحاجة لسنتين من التحريات لمعرفة ذلك؟".

عندما وصل السيد ميليس إلى بيروت، قام بزيارة عائلات ثلاثة من ضحايا التفجير في حادثة الحريري وقدم تصريحات مستمرة للصحافة. على خلاف ذلك، لم يقدم السيد براميريتز أية مقابلات ولم يشر أبدا إلى اللبنانيين الذين كانت القضية ذات أهمية شخصية بالنسبة لهم.

لكن ما ذا لو كان السيد براميريتز قد أخفى أوراقه لأسباب تكتيكية؟ في النهاية، طالب براميريتز بالمحافظة على سرية التحقيقات التي قام بها. ويجيب السيد ميليس على ذلك، بالنسبة له كألماني، بأن فكرة التحريات السرية تبدو نذير سوء. "من حق الشعب اللبناني أن يعلم بما يجري، حتى وإن كان هناك إخفاق في التحريات. في النظام الديمقراطي، من حق الشعب أن يعلم، وبشكل خاص حين يحدث اغتيال لرئيس وزراء والشعب لا يثق بالسلطات. كانت هذا فرصة لاستعادة المصداقية للنظام القضائي".

ويرى السيد ميليس أيضا أن هناك سبب آخر للانفتاح من قبل المحقق: "للحصول على الدعم الشعبي، وتشجيع الشهود على التقدم بالمعلومات، والحكومة على إرسال محققين متخصصين، عليك أن تقدم لهم فكرة عما تقوم به".

طالما نظر إلى التحقيقات في مقتل الحريري من قبل المدافعين عنهاعلى أنها وسيلة لإيقاف الاغتيالات السياسية في الشرق الأوسط أمرا أكثر صعوية. وفي لبنان بشكل خاص، حيث هناك الكثير من القادة السياسيين والمسؤولين الذين قتلوا منذ السبعينات (وكان آخرها ضابطا استخباراتيا الجمعة الماضية، من بين الذين كان واجبهم متابعة قضية الحريري)، كان مقتل الحريري الجريمة التي شعر معها الناس بأن هناك اهتمام دولي لن يسمح بمرورها دون معاقبة الفاعلين.

وعدا عن تفاؤل اللبنانيين، كان النقطة المشار إليها قيمة: احترام دور القانون، المعدوم في المجتمعات العربية، يمكن أن يستفيد من عملية قانونية ناجحة لمعاقبة المذنب. العقلانية تبقى مقنعة اليوم، مع ازدياد عدد المشككين في الغرب بإمكانية تحول المجتمعات العربية إلى الديمقراطية. كانت التحريات في مقتل الحريري فرصة لإظهار أن الديمقراطية دون قانون هي كائن خرافي.

ترك السيد ميليس خلال رئاسته للمحكمة الجنائية الدولية القليل من الشك حول من يقف وراء الجريمة. وقد طلب من السلطات اللبنانية توقيف أربعة من الجنرالات الموالين لسورية في جهاز الاستخبارات اللبناني والحرس الرئاسي. كذلك قام باستجواب مسؤولين سوريين، من بينهم ضباط استخبارات. حتى أنه حاول استجواب الرئيس السوري بشار الأسد.

رحل السيد ميليس قبل أن يتمكن من تحقيق ذلك، ولم يعرف ما حدث لاحقا. ذكرت تقارير صحفية بأن السيد براميريتز عقد "لقاء" مع القائد السوري، لكن ذلك مختلف قانونيا، حسب تعبير السيد ميليس، عن استجواب قضائي، والذي سبق وأجري مع الرئيس اللبناني.

قمت بتذكيره بأن اثنين من الشهود الرئيسيين في تحقيقاته لا يعتمد عليهم. فقد قال أحدهم في مؤتمر صحفي في دمشق بأن شهادته كانت كاذبة، والآخر، ضابط سابق في الاستخبارات، أصبح لاحقا مشتبها به في اغتيال الحريري حسب طلب السيد ميليس، وقدم شهادة متناقضة.

أجاب السيد ميليس على ذلك بأنه في مثل هذه الجرائم لا يمكنك ان تكون انتقائيا بخصوص من تتعامل معهم. "ماذا تتوقع، ملائكة؟ ذاك الاثنين قدما الكثير من المعلومات، التي تمكنا أحيانا من مقاطعتها مع معلومات من جهات أخرى. في النهاية، ستحدد المحكمة مدى مصداقيتهما، وتبحث عن السبب الذي دفعهما للتوقيع على تلك الشهادات". ويضيف السيد ميليس: "ربما كان الهدف من وجود هؤلاء الشهود التقليل من مصداقيه التحقيقات، لكن يمكن لذلك أن يساعد على تحديد الجهة التي تحاول التقليل من مصداقية التحقيقات".

واجهت السيد ميليس بأنه، مهما يكن الأمر الذي تكشفه المحكمة الجنائية الدولية، هناك تردد دولي واضح تجاه إيصال قضية الحريري إلى نتيجة. البعض في الأمم المتحدة، على سبيل المثال، متحمسون لزعزعة استقرار الحكومة السورية، مفترضين بأن تورطها في الاغتيال أمرا مثبتا.

كان جوابه غامضا: "كقاضي، لا يمكنك مقاضاة الحكومات والبلدان؛ أنت تقاضي الأفراد. عندما ترأست المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في اغتيال الحريري، كانت هناك إرادة للوصول إلى العمق في هذه الجريمة، الأمر الذي كان ظاهرا في جميع قرارات مجلس الأمن الدولي حول هذه المسألة. لم لم يعد ذلك موجودا الآن؟ كان أحد أكثر أعضاء المجلس تعاونا هي روسيا، التي أقنتعت سورية بالاستجابة بقرارات المجلس. حتى مع الدول التي لها مصالح مختلفة، يمكن التوصل إلى تفاهم".

ماذا عن اليوم؟ "تقليديا، هناك توتر بين السياسة والعدالة وأنا أحترم بأن [السكرتير السابق للأمم المتحدة كوفي] أنان لم يرغب بحدوث مشكلات أكثر بسبب قضية الحريري. مع ذلك، كان أنان مساندا دوما لعملي. لم تتدخل الأمم المتحدة في جهودي وليس لها أي تأثير علي. ولم أكن أحاول الحصول على منصب في المنظمة. حتى وإن حاولت الأمم المتحدة، هناك محققون من 17 دولة ممن كان لهم طرق مختلفة في التفكير، مما يجعل التدخل مستحيلا".

لا يستبعد السيد ميليس كثير من احتمال أن تتم تغطية التعطيل الذي قد تصل إليه قضية الحريري. ويتنبأ بأنه سيتم تشكيل المحكمة هذا الصيف، لكن "على الناس ألا يتوقعوا أية محاكمة خلال السنتين القادمتين، إلا إن استعاد المحققون زخم القضية". وإلا مالذي سيحدث؟ "أخشى بأن يصبح المتهمون في المساحة التي ليس فيها لأحد سلطة قضائية، مع لبنان يدعي بأنهم تحت السلطة القضائية للأمم المتحدة، والأمم المتحدة تقول بأن عليهم أن يبقوا تحت السلطة القضائية اللبنانية".

الذي يقوله السيد ميليس، بكلمات كثيرة، بأن المحكمة ليست عقد محاكمة. سيتم تشكيل المحكمة وتسمية القضاة، ولكن دون أن يقدم القضاة شيئا ملموسا إلى المحكمة، قد لا تؤدي العملية إلى شيء. ومع ذلك، هو متفائل إلى حد ما: "بالتأكيد، لا يمكن لأحد إلغاء المحكمة. قد لا أكون راضيا عن الإطار الزمني، لكنني مقتنع جدا بأن القضية يمكن أن تحل سوف تحل".

ويحذر السيد ميليس أيضا من أن الأمم المتحدة ستـتأثر في حال فشل تحقيقات الحريري. "إن صورة الأمم المتحدة على المحك، وبشكل خاص في لبنان، حيث يعلق الناس آمالا كبيرة، ربما كبيرة جدا، على التحقيق في قضية الحريري".

لذلك، ما هي نصيحته للقاضي دانيال بلمر، الخليفة الكندي للسيد براميرتز؟ "ركز على قضية الحريري بحد ذاتها، لا تحاول أن تؤلف كتابا في التاريخ. ركز على من، وكيف، ولماذا وقعت الجريمة. التحليل ليس بديلا أبدا عن التحريات الشرطية العميقة".

والأمر الأكثر أهمية، يقول السيد ميليس بأن على قضية الحريري أن تبقى في الوعي الشعبي. "لسنوات عديدة استمرت قضية نادي "لابل" مع قليل من النجاح، لكنها بقيت حية من جهة الادعاء من خلال عملي على إبقاء الإعلام مطلعا، ومن جهة الضحايا لأن عائلاتهم خلقت مجموعات للضغط. أشعر بأن قضية لبنان، وعائلات الضحايا يمكن لهم بالتأكيد أن يلعبوا دورا أكثر فاعلية".

قد يكون ذلك صحيحا، لكن الضحايا أو عائلاتهم من النادر أن يكون لهم صوت في العالم العربي. إن قدر محكمة الحريري سيحدد فيما إذا كان ذلك قد تغير. والسؤال يتجاوز قضية اغتيال سياسي رفيع، فهو يتعلق فيما إذا كان المجتمع الدولي قد أجمع أخيرا على أن الوضع يجب أن يكون مختلفا في الشرق الأوسط، أم العودة إلى قبول الوضع القديم.

— -

مايكل يونغ كاتب زاوية رأي مع صحيفة "دايلي ستار" في بيروت ومحرر مساهم مع مجلة "ريزون".