نحن، أسوةً بسائر اللبنانيين، في حال من الذهول والأسى والحزن. كانت المشكلة في انتخاب رئيس للجمهورية.. فإذا بالجمهورية بلا رئيس. حفظ الله الجمهورية من جموح اللبنانيين إلى الانتحار الوطني، إلى ما بعد الفراغ. أجل، الساسة اللبنانيين يرون أمامهم الهاوية ويمضون قدماً نحوها باندفاع لا كابح لهم. الهاوية التي ستدخل لبنان مرة ثانياً في حرب أهلية لو لم يتعقل الساسة، على حدٍ سواء، وعادوا الى الصواب والنظر من زاوية مصلحة لبنان وعدم التمترس خلف غايتهم الشخصية.

تعرض لبنان في تاريخه الحديث إلى سلسلة من الأزمات الوطنية العنيفة. كاد لا يمرّ عقد من الزمن من دون أن يقع هذا الوطن الصغير في أزمة أو أزمات وطنية تهدد الوحدة الوطنية وتالياً وجود لبنان في الصميم. فمن المسلّمات أن لبنان يكون واحداً أو لا يكون. والأزمة التي تعصف بلبنان اليوم هي من أخطر تلك الأزمات على وحدة لبنان وبالتالي على وجوده. وعلى الرغم من قناعة العديد من اللبنانيين بأن لبنان لن يعيش بعمزل عن محيطه وامتداده الطبيعي والاجتماعي فإن فئة من اللبنانيين يرمون الفتنة لقطع العلاقة الاجتماعية التاريخية والروابط الانسانية لمصلحة بعيدة عن مصلحة لبنان.

رأيت في وقت بدا لنا وكأن الأزمة بلغت ذروتها: إننا في حال أضحى فيها المسؤول غير مسؤول، وأضحى النائب من النوائب والوزير من الأوزار، وذلك في تعبير عن إفلاس السياسة والسياسيين، إفلاس النظام السياسي والطبقة السياسية برمتها، فإذا بنا اليوم نتجاوز تلك الذروة إلى حال من الضياع تهدد المصير الوطني، أضحى الفراغ على المستوى الرئاسي من المسلّمات المقيتة، وأضحى الهمّ يتركز على تنظيم الفراغ الخطير بحيث لا يؤدي إلى تفجّر أمني، الكل يسلّم بحلول الفراغ، ولا حيلة لأحد في ذلك، والكل يدعو إلى الحفاظ على السلم الأهلي في انتظار الحل الذي يُفضي إلى انتخاب رئيس توافقي للبلاد.

بل وعلى العكس لقد أخطأنا النظر في الأمر، وجد الشخص الذي يتوافق عليه الفرقاء ليجلس على كرسي الرئاسة الأولى واليوم يعيشون في مأزق وفراغ جديدين. السؤال الذي يدور في رؤوس الساسة، ما هو شكل الحكومة ومن يقودها. كذلك أخطأنا التقدير عندما توقعت الى أنه لن يصل اتلأمر الى تفجر أمني، بل على العكس الأمن بذاته تهدد! العميد فرانسوا الحاج واليوم الرائد وسام عيد. أما بالنسبة لالأحد الأسود السؤال الذي يدور في ذهون الساسة، من وراء هذا الفعل؟ "نريد الحقيقة"... "ننتظر نتائج التحقيق".. سمعنا هذا الموال منذ زمن قريب بعيد.

كانت الحكومة القائمة هي المشكلة فأضحت ويا للسخرية هي الحل، حتى الذين كانوا ينتقدون هذه الحكومة وما زالوا يطعنون بشرعيتها أو دستوريتها أو ميثاقيتها، باتوا اليوم، ولو في قرار أنفسهم، يسلّمون بالواقع المرير الذي جعل الحكومة البتراء المصدر الأوحد للسلطة الإجرائية، إنه الفراغ القاتل.

والعجيب بالأمر أن المواطن اللبناني عنده القدرة على التحمل، قدرة عالية! "منسوب الطاقة[*]" لديه عالي لدرجة ملفتة للأنتباه. لم أسمع يوم أنه شن حربا على الساسة بل وعلى العكس انه يتأقلم مع كل الحالات: انه قادر على التأقلم مع ارتفاع الاسعار ومع حجم البطالة المتزايد مع التفجريرات.

فكرت ذات يوم: لو كنت في موقع رئاسة الوزراء، لا قدّر الله، لاستقلت منذ سنة كي أفسح في المجال أمام قيام حكومة وفاقية تضع حداً للأزمة المتمادية. واليوم أقول: لو كنت في موقع رئاسة الوزراء بعد حلول الفراغ الرئاسي، وبعدما آلت صلاحيات رئيس الجمهورية إلى الحكومة مجتمعة بحسب الدستور وبصرف النظر عن رأينا فيها، لأقدمتُ على ترميم الحكومة وتوسيعها بقصد جعلها أقرب ما تكون في بنيتها إلى حكومة وحدة وطنية تقوم بدور صمام الأمان لدوام الاستقرار والسلم الأهلي ريثما يهب الله على لبنان بالحصانة في وجه عبث العابثين بمصير هذا البلد الصغير، وبينهم قوى إقليمية ودولية وعظمى، والحصانة لا تكون إلا بالوحدة الوطنية وإقلاع اللبنانيين جميعاً عن الإصغاء إلى أصوات الخارج التي تدفع بهم إلى الفوضى التي تُسمّى خلاقة في السياسة الخارجية لدولة عظمى.

يبقى السؤال: كيف ومتى وأين سيتوصل اللبنانيون إلى مخرج من أزمتهم الخطيرة بالتوافق على رئيس جديد للبلاد؟ بعبارة أخرى: ماهي آلية التوافق؟ هذا مع العلم أن انتخاب الرئيس ما هو إلا عتبة لا بد من اجتيازها إلى الحل الحقيقي للأزمة، والحل لن يكون إلا بالإصلاح الشامل، والمدخل إليه هو إصلاح سياسي جذري ومفتاحه قانون انتخاب عادل وفاعل، من الطبيعي أن يكون الإصلاح السياسي مدخلاً إلى الإصلاح الشامل، ذلك لأن قرار الإصلاح، أيا يكن موضوعه أو مستواه، إنما يصدر عن مراجع سياسية: بقرار من الوزير في وزارته، أو بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء، أو بقانون يصدر عن مجلس النواب، وذلك يتوقف على طبيعة الإصلاح ومستواه.

التوافق لا يكون مع الذات بل مع الآخرين، لذلك فهو لا يعود إلى شخص معين أو إلى فريق معين في النزاع المحتدم، وإنما يعود إلى مرجعية جامعة لشتى القوى في البلاد، لو كان في لبنان ديمقراطية حقيقية، لكان على مجلس النواب اجتراح الحل ديمقراطياً، ولو كان في لبنان ديمقراطية حقيقية لكان الحكم فيه للأكثرية ولكانت الأقلية في موقع المعارضة البنّاءة، ولكن الواقع أن الديمقراطية في لبنان غير فاعلة حتى لا نقول معدومة فعلياً.

وفي هذه الحالة نحن نرى السبيل إلى التوافق في العودة إلى إحياء المرجعية التي ابتدعها رئيس مجلس النواب في مرحلة سابقة، أي هيئة الحوار الوطني التي ضمت ممثلين عن مختلف القوى السياسية في مجلس النواب، فعبرَ هذه المرجعية يمكن التوصل إلى توافق على ما يؤدي إلى انتخاب الرئيس المقبل. والتوافق المنشود يفترض قدراً حيوياً من التفاهم حول مرحلة الرئيس العتيد وما يكتنفها من قضايا واستحقاقات، ومنها تأليف الحكومة الأولى في العهد الجديد، وتحديداً هويتها وبنيتها وبرنامج عملها.

من هنا كان قولنا إن الكرة في ملعب رئيس مجلس النواب، فهو الذي يستطيع أن يجمع هيئة الحوار الوطني، إن لم يكن ذلك فالحياة السياسية مهددة بالشلل القاتل واحتمالات التفجر السياسي والأمني تبقى والعياذ بالله مفتوحة في أية لحظة.

لا عمرو موسى ولا كوشنير سينقذون لبنان، ولا الرباعي سعد – جنبلاط – جعجع – الجميل سيحافظون على لبنان. جميعهم يقودون لبنان الى شفير الهاوية.

ومن منا يعرف صوت لشفير الهاوية؟

[*][*] مقولة للأستاذ زياد الرحباني في مقال "يا فراغ الفل" بتاريخ 2/2/08 في جريدة الأخبار اللبنانية