ما تلاحظه الحكومة السورية، تنتقده الدول العربية الأخرى، وتعاني منه الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهو: عدم وجود صوت واحد يعبر عن السياسة الخارجية الأوروبية.

وتبرز إشكالية «تعدد الأصوات» في الاتحاد الأوروبي، لدى بروز أزمات كبرى مثل الحرب على العراق في العام 2003، عندما قسمت واشنطن الدول الأوروبية بين من ينتمي الى «النادي الهرم» مثل ألمانيا وفرنسا وتلك الدول التي أدخلت «دماً جديداً» الى الاتحاد بمجرد اكتسابها العضوية الكاملة مثل بولندا وتشيكيا.

وعلى رغم ان هذه الإشكالية، القائمة على التعدد في السياسة الخارجية، تستند الى الاختلاف في المصالح الوطنية لكل دولة، فإنها تكون صاعقة لدى تناول أزمة تمس البيت الأوروبي مثل إعلان إقليم كوسوفو. غير انها تبقى قائمة في ملفات كبرى، مثل الأوضاع القائمة في الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط.

وشكل «الملف السوري» أحد النقاط الجاذبة للاختلاف بين الدول الأوروبية الـ 27، خصوصاً في الفترة الأخيرة عندما ارتفع هذا «الملف» الى قائمة البحث في الأروقة العابرة للأطلسي، حيث ظهر التشظي الأوروبي في»سياستين»، واحدة اقرب الى السياسة الأميركية وأخرى أقرب الى عملية برشلونة القائمة على التعاون بين ضفتي المتوسط: شماله الأوروبي، وجنوبه العربي.

وكان الاتحاد الأوروبي التزم سياسة غير معلنة تقوم على تجميد الاتصالات السياسية الرفيعة المستوى مع دمشق منذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في بداية 2005. لكن «سياسة العزل» الأوروبية عادت وتشققت تدريجاً الى أن انتهت في النصف الثاني من العام 2006، بعدما ظهر توافق على ان «سياسة العزل كانت فاشلة» ولم تؤد غرضها مع دمشق.

وبعدما شهدت نهاية العام 2006 زيارة لعدد من وزراء الخارجية الأوروبيين وسط معارضة وزراء لدول كبرى، عادت لتظهر أصوات داخل الاتحاد الأوروبي تدعو الى «الوحدة السياسية» في الحوار مع دمشق، ما أسفر عن زيارة من مسؤول الشؤون الخارجية للاتحاد خافيير سولانا في ربيع العام الماضي.

وبالفعل تحدث الى المسؤولين السوريين عن الاهتمامات الأوروبية وتوقعات الاتحاد من دمشق «دوراً بناء» في ملفات العراق ولبنان والأراضي الفلسطينية وعملية السلام. لكن اللافت ان الجانب السوري عبّر من جانبه عن استيائه من «تعدد الأصوات» داخل الاتحاد وعدم قدرة الأوروبيين على «النزول من القطار الأميركي» في الشرق الأوسط مع ان مصالحهم مختلفة عن مصالح أميركا لأسباب عدة، لعل بينها القرب الجغرافي.

تكرر السيناريو في الأشهر الأخيرة. قام وزيرا خارجية هولندا مكسيم فيرهاغن والنمسا ابيسولا بلاسنيك بزيارة دمشق، كما ان وزير الخارجية السوري وليد المعلم زار برلين تلبية لدعوة من نظيره الألماني هانز فرانك شتاينماير، ما أدى الى إعادة فتح ملف: أين السياسة الأوروبية الموحدة؟

وقالت مصادر ديبلوماسية أوروبية لـ «الحياة» إن الخارجية الأميركية استدعت سفراء كل الدول الأوروبية للقاء مسؤول كبير في مبنى الوزارة في الثاني والعشرين من الشهر الماضي.

وبحسب المعلومات المتوافرة، فإنه خصص لإعطاء إيجاز سياسي للسفراء الأوروبيين حول الوضع في سورية ولبنان، ذلك ان المسؤول الأميركي طلب من السفراء ضرورة ان «يلتزم الاتحاد الأوروبي السياسة الأميركية إزاء سورية» القائمة على العزل السياسي وفرض عقوبات اقتصادية، قبل ان يوجه انتقادات مباشرة على خلفية زيارة وزيري الخارجية الهولندي والنمسوي دمشق «من دون أن يتحدث عن خروقات حقوق الإنسان».

وبحسب المعلومات فإن نقاشاً دار بين الجانب الأميركي وديبلوماسيين أوروبيين. إذ عندما قال سفراء انهم يفضلون طريق الديبلوماسية «وأن الشعور هو أن سياسة أميركا لم تحقق أي نتيجة» مع دمشق، جدد المسؤول الأميركي الطلب بوجوب «عزل سورية واتباع السياسة الأميركية».

وبحسب التقارير الواردة من سفراء أوروبيين في بيروت الى نظرائهم في دمشق، فإن مسؤولين حكوميين لبنانيين ركزوا على النقطة نفسها خلال لقائهم سولانا في بيروت في الخامس من الشهر الجاري، داعية الاتحاد الأوروبي الى اتخاذ «موقف موحد» من سورية معتبرين ان الوضع الراهن بحيث يقوم وزراء خارجية الدول الأوروبية بزيارات ثنائية الى دمشق «لم يعد مقبولاً» لان ذلك «يعطي الانطباع الخاطئ عن سياسة الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط ولا يعكس السياسة العامة للاتحاد الأوروبي» إزاء دمشق.

بناء عليه، جرت محاولة أخرى للوصول الى إجماع أوروبي للتحدث بـ «صوت واحد» مع دمشق. وبحسب المعلومات قدم سولانا خلال مأدبة غداء مع الوزراء الأوروبيين في العاشر من الشهر الجاري، اقتراحاً باتخاذ وزراء خارجية الدول الأوروبية الـ 27 «سياسة موحدة».

لكن المعلومات تناقضت إزاء المقصود بـ «السياسة الموحدة». وبينما قال بعض المصادر ان المقصود هو «عدم قيام وزراء الخارجية أو شخصيات سياسية رفيعة بزيارة دمشق الى حين صدور إشارة إيجابية أو خطوة تعتبرها حكومة السنيورة مقبولة لحل الأزمة اللبنانية»، اي ما يشبه العودة الى واقع الحال منذ 2005، أشارت مصادر ديبلوماسية أخرى الى أن المطروح هو تكليف سولانا أن يكون المحاور الوحيد مع دمشق. وزادت: «هناك اتفاق على الهدف وهو اتباع سياسة تتلاءم مع القرارات الدولية في شأن لبنان، لكن الخلاف هو حول الأسلوب: بعض الوزراء الأوروبيين يأتون الى دمشق والبعض الآخر يرفض. ما طرح هو أن يكون سولانا في المقدمة».

لكن اللافت ان الوزراء الأوروبيين لم يصلوا الى إجماع إزاء ذلك. إذ ظهر انقسام جديد يشبه الى حد كبير الانقسام الحاصل في الواقع. وزراء يأتون الى دمشق انطلاقاً من مصالح وطنية مثل القبرصي واليوناني اللذين يريدان إعطاء حوافز لدمشق لتخفيف «تطبيعها» مع قبرص التركية أو اعتبارهم أن الدور السوري «محوري وأساسي لتحقيق السلام في الشرق الأوسط»، وآخرون يرفضون ذلك على خلفية «خيبة» من السياسة السورية مثل وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير بعد فشل الاتصالات الثنائية لحل أزمة لبنان، مع ظهور «صمت» من الجانب البريطاني باعتبار ان المقياس العاجل هو في العراق مع التركيز على أهمية «توافر المناخ المناسب» للوصول الى تقويم إيجابي لتطور العلاقات بين دمشق ولندن.

وباعتبار أن القرارات الأوروبية يجب أن تؤخذ بالإجماع، فان معارضة بعض الدول «توحيد السياسة» كانت كافية لفشل اقتراح سولانا. وقالت المصادر الديبلوماسية: «هذا مهم جداً لأن أي فكرة تقر بالإجماع تحتاج الى الإجماع لتغييرها كما هي الحال مع قرار الاتحاد الأوروبي الإجماعي فرض حظر على تصدير السلاح الى الصين في العام 1989، ذلك ان تغيير هذا القرار في حاجة الى موافقة كل الدول من دون استثناء».

لكن اللافت، أن مسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد دعا بعد أيام الى «تصعيد الضغوط على سورية لحل الأزمة اللبنانية»، محذراً في تصريحات علنية من أن عدم قيام دمشق بلعب دور لحل الأزمة «يعني أننا سندخل في أزمة جدية» مع دمشق، ما دفع أحد السفراء الأوروبيين في دولة متوسطية الى التساؤل: هل كان يتحدث باسم دولة معينة أم باسم الاتحاد الأوروبي ككل؟

الدول الأوروبية ذاتها تريد الوصول الى إجماع على سياسة خارجية موحدة. والدول العربية تريد ذلك. و «يتفق» لبنان وسورية في المطالبة بـ «صوت أوروبي موحد». لكن الخلاف هو: اي صوت موحد؟ صوت فرنسا أم صوت إسبانيا؟ صوت وزارة الخارجية أم المستشارية في برلين؟ صوت ضفة المتوسط أم الأطلسي؟ وغياب الإجماع، يفتح الباب أمام استمرار «التعددية» الأوروبية الى حين.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)