المسألة ليست نموذجا للاحتلال، لأنها تدخل في "نمط" الرؤية التي ترسمها ثقافة ظهرت في زمن خاص، ثم انتقلت لتصبح واقعا لا مفر منه، فما يحدث في البصرة ومدينة الصدر لا يعيدني لكربلاء، بل يمسح عن العين غشاوة فيها خيالات لـ"ديك تشيني" ولكل الصور التي تصدرها "زعماء" لا يرون من الأرض المحروقة سوى مساحة الدم التي رسمها أكثر من مليون سقطوا منذ الاحتلال.

والصورة ليست أنثوية، لأنها تلخص تاريخ القهر الذي نمارسه على أنفسنا، فيضح السياسيون في المؤتمرات الصحفية ثم يطلبون من "الميلشيا" إلقاء السلاح، وتحلق في أجواء بغداد مروحيات تختار القنص على مساحة القرن والواحد والعشرين. هذه الصورة التي تسكنني في أكبر مفارقة ما بين الأرض والإنسان، ومابين سريعة القذيفة وطاقة البشر على احتمال الموت، فعندما انهارت العراق كنت أعرف ان جزء مني يتكسر، رغم أن العراق سيبقى إنما بذاكرة من ودعونا وهم يراقبون المروحيات والقناصة وأصوات الرصاص التي حلت بدلا من ناظم الغزالي....

من يذكر دجلة والفرات قبل ألف عام، أو حتى يعرف "الحدائق المعلقة" التي أصبحت اليوم بصورة الموت القابع في كل زاوية، فإنه يدرك تماما أن السياسة أرادت اغتيال "حضارة" بكاملها على طريقة أفلام الغرب الأمريكي، فالسواد الذي يلف نساء العراق هو "غمامة" الثقافة التي يتم بناؤها على مساحة التناقض التي يحلم بها من ابتدعوا نهاية التاريخ أو صراع الحضارات، أو رسموا الصورة التبشيرية لديمقراطية لن تولد أبدا...

في البصرة صورة ترحل في كل لحظة نحو العواصم العربية، وتستقر داخل تراث حضاري ربما عرف "الغزو" و "الاجتياح"، لكن لم يسبق أن اختبر "مدنية مقاتلة"، و "ديمقراطية التدمير الشامل"، فمع الزمن الذي تتبدل فيه القناعات ربما نعود من جديد إلى إيماننا بـ"الديكتاتور العادل" بعد أن استطاعت "السياسات" نحر الحداثة وقيمها أما أعيننا، والسؤال اليوم عن عراق الماضي والحاضر لم يعد يملك أي معنى، لأن ما يجب أن يحدث هو أمر آخر... أمر يمكن أن يخرج من هذه الخبرة في التعامل مع "سحل" القيم والقدرة على التباهي بأن "الديمقراطيات الوليدة" أفضل مما سبقها!!!!

في الغد هناك عراق يلملم جراحه وأتمنى أن نتذكر ما حدث... لأننا أبناء هذه المجزرة....