ماذا لو استطعنا تجاوز المناسبة، والعبور من "الاحتفالية" بذكرى الجلاء إلى مساحة التراكم السياسي الذي يحيط بنا، فإذا كانت "المناسبات" القومية في العالم يوم جامع يعبر عن السيادة، فإنها في الشرق الأوسط عموما، وليس في سورية حصرا، تعيد تشكيل نفسها في كل عام لتتحول من مناسبة إلى أسئلة ثقافية وسياسية وربما اجتماعية!!!

بالفعل تحقق الجلاء، ولم يكن ثمنه عاديا، وفي نفس الوقت بقي في "مجال" الاختبار المستمر منذ أكثر من نصف قرن، لأنه كان حدثا محاطا بتكوين قومي، وربما بمحاولة "تجاوز" التاريخ باتجاه الحداثة، لكنه أيضا "جلاء" مشدود إلى مراحل سابقة عندما أعلن المؤتمر السوري الاستقلال عام 1920، وهو أيضا "جلاء قلق" لأنه عاصر احتلال فلسطين.

هذه الصورة مستمرة حتى اللحظة، وربما مع تراكم سياسي يضعنا اليوم أمام "ذكرى" هي في نفس الوقت شاهد على أن "الجلاء" ليس عملية سياسية فقط، فحيوية التحول نحو "دولة وطنية" بقيت تتأرجح على إيقاعين:

 الأول مرتبط بالحلم القومي الذي أصبح عروبيا واضحا في الخمسينيات، فالمسألة كانت "دولة ناقصة" حسب عدد كبير من التيارات السياسية السورية على وجه الخصوص.

 الثاني التهديد الذي كان حاضرا منذ اللحظات الأولى وقاد بعد عامين نحو حرب فلسطين، ثم تراكبت الأمور فأصبحت "المشاريع الشرق أوسطية" جزء من التفكير بالجلاء لأنها غالبا ما تحاول "مس السيادة"، ابتداء من حلف بغداد وانتهاء بـ"الشرق الأوسط الجديد".

عمليا فإن الإيقاعين السابقين شكلا أزمة بالنسبة لـ"الدولة الوطنية" التي كان مواطنوها يحملون معهم صورة سابقة عن دولة أوسع أقرها المؤتمر السورية، وبعد ذلك حملت التيارات السياسية القومية صورة أكبر للانتماء. فالمسألة بالنسبة للجلاء لم تكن يوما نقطة للتوقف حول مشروع الدولة الوطنية، بل أكدت الأحداث أنها كانت نقطة العبور باتجاه التفكير الجديد بمفهوم الدولة لا كما كرسها الانتداب بل وفق التفكير الذي يضمن "السيادة" و "الهوية الثقافية".

وربما لا حاجة اليوم لإعادة تقييم ما وصلت إليه "المشاريع" الحداثية بشأن الدولة والقومية، ولكن ربما من المفيد التذكير أن "الجلاء" بذاته تم بناؤه، وهو ليس مجموعة "ثورات" اندلعت ضد الاحتلال، لأنه تواكب مع محاولة بناء ثقافي وسياسي جديدين، بينما بقيت "الرؤية القومية" أو "الحداثة" مشروعا سياسيا اعتقد البعض أنه متوفر لوجود شروطه، وتم تجاوز عملية "البناء"…

وما يحدث اليوم ليس تشتيتا لمرحلة الحداثة التي رغبت أجيال الاستقلال في التعامل معها، لأن تداخل المفاهيم أزال "مرحلة" كاملة، بينما بقيت "المشاريع الشرق أوسطية" مستمرة، وربما ضعف "الحلم" الذي كان يرافق الأجيال في النصف من القرن العشرين. فمنذ الجلاء حتى اليوم ربما أوجدنا تراكما سياسيا، لكن "بناء الحلم" بقي مفقودا وربما متروكا للأجيال التي تشهد اليوم ظرفا مختلفا تم فيه احتلال العراق و "الاعتراف" بإسرائيل، وانكسار "النظام العربي" الذي بدأت بوادره بعد "الجلاء".