في إطار “دمشق 2008 عاصمة الثقافة العربية”، عُقد برعاية نائب رئيس الجمهورية الدكتورة نجاح العطار مؤتمر “تجديد الفكر القومي والمصير العربي”، عالج فيه الباحثون والمشاركون على مدى خمسة أيام 15 محوراً تتعلق بمختلف جوانب الموضوع.

من القضايا التي حظيت بمشاركة ومناقشة واسعتين قضية القومية والهوية العربيتين في ضوء التحديات التي تواجه الأمة في المرحلة الراهنة والمستقبل المنظور. ذلك أن نفراً من الباحثين والمشاركين، وكنتُ بينهم، حرص على بيان الفارق الجوهري بين القومية والهوية، وما يستتبعه ذلك من تداعيات وانعكاسات على العمل النهضوي العربي، الفكري والسياسي، في الحاضر والمستقبل.

قلتُ، وشاركني بعض النهضويين القدامى والجدد، إن ثمة فارقاً بين القومية العربية والعروبة. فالقومية العربية اكتسبت بعد الحرب العالمية الثانية، لا سيما في فكر حزب البعث وممارسة جمال عبد الناصر، معنيين متمايزين. فهي تارة إيديولوجيا وتارة أخرى حركة سياسية. القومية كإيديولوجيا شكّلت بالنسبة إلى دعاتها عقيدة بل منظومة من المفاهيم والرموز والمفردات والأهداف الثابتة كادت تتماهى مع مفهوم الأمة ذاتها. والقومية كحركة سياسية نشدت تحرير الأمة وتوحيدها وفق مفهوم دعاتها وأنصارها، أي وفق الايديولوجيا القومية ذات المفاهيم والرموز والأهداف الثابتة.

العروبة، تعريفاً، هي هوية تنطوي على قيم ومزايا ومعانٍ وتطلعات يتصف بها مجاميع من المنتمين إلى الأمة بما هي اجتماع سياسي وحضاري. وفيما تنطوي القومية، وفق تعريف دعاتها، على مفاهيم ورموز وأهداف ثابتة، تتصف العروبة كهوية بأن معانيها ومزاياها وتطلعاتها متحركة ومتطورة وذات دينامية دائمة التأثر بمتحولات الزمان والمكان.

على الصعيد السياسي، يسعى دعاة القومية إلى إقامة الدولة الأمة أو الدولة القومية التي اتصف بها تاريخ أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين. وقد تأثر دعاة القومية في بلادنا العربية بالحركة القومية في أوروبا وسعوا مثلما سعى دعاتها الأوروبيون إلى إقامة حركة قومية يكون هدفها بناء دولة أمة أو دولة قومية في بلاد العرب.

القائلون بالعروبة كهوية، القدامى منهم والجدد، سعوا ويسعون إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية على أساس حكم القانون والعدالة والتنمية، تعتمد الاتحادية (الفدرالية) في نظامها السياسي وهيكليتها الدستورية. ولهذه المدرسة من العروبيين الديمقراطيين حجج كثيرة يسوقونها لدعم مفهومهم الحركي للهوية واعتمادهم خيار الديمقراطية الاتحادية في بناء دولتهم المدنية، لعل أبرزها تعددية المجتمع العربي وتنوعه. ذلك أن نظرة موضوعية متأنية إلى الاجتماع السياسي والحضاري العربي تفصح عن حقيقة ساطعة هي وجود أقوام وأثنيات وطوائف ومذاهب ولغات وثقافات ونزعات في القارة العربية. لذلك فإن اعتماد مقولة القومية كإيديولوجيا يفضي إلى نمط من الحصرية والعنصرية إذ تصبح عقيدة قوم أو فئة من الناس، كبيرة أو صغيرة، تعتنقها وتنادي بها دون سائر الفئات والأقوام والإثنيات والطوائف. والحال أن العروبة كهوية تتصف بمزّية جامعة من حيث تركيزها على المشتركات السياسية والاجتماعية والثقافية القائمة بين تلك الأقوام والإثنيات والطوائف والمذاهب والثقافات. ثم إن اختيار الاتحادية (الفدرالية)كنظام سياسي يفسح في المجال لتحقيق مبدأ “التنوع في إطار الوحدة”، فلا يكون التعدد طريقاً لإفساد التوحد، بل يكون التنوع السياسي للأمة إثراء وإبداعاً.

يستعين أنصار الاتحادية بالتاريخ السياسي للأمة مقدمين من خلاله مثالاً وحجة. فنظام الخلافة العربية الإسلامية إنما كان نظاماً اتحادياً، ولعل العرب كانوا من أوائل مبدعيه. ذلك أن الخليفة وجهاز حكمه المركزي انفرد بممارسة الصلاحيات المتصلة بشؤون الفقه وبيت مال المسلمين والدفاع والعلاقات الخارجية المتصلة بأمور الحرب والسلم، وترك للولاة في ولاياتهم جميع الأمور الأخرى، لا سيما تلك المتصلة بشؤون حياتهم اليومية وخصوصية مواطنهم وديارهم. أليست النظم السياسية الاتحادية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا والهند وروسيا وألمانيا نماذج مطورة عن نظام الخلافة الاتحادي؟

يستوي في الأهمية نفسها لمسألة القومية كإيديولوجيا والعروبة كهوية مسألة أخرى راهنة. إنها مسألة التحديات التي تواجه العروبة بما هي منطلق لحركة نهضوية تحررية ديمقراطية اتحادية. فالعروبيون النهضويون يواجهون في عصرنا أربعة تحديات بالغة الخطورة.

أولى التحديات، بؤس الوضع الاجتماعي العربي من حيث تصاعد معدلات الفقر والمرض والجهل والأمية، واستشراء الجوع والبطالة والتهجير والهجرة، وتنامي أساليب الضغط والقمع والتسلط والاستبداد والتغوّل المنهجي على حقوق الإنسان والحريات العامة.

ثاني التحديات، تفاقم خطورة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الاقتلاعي الآخذ في التوسع وسط دعمٍ أمريكي سياسي ومادي متصاعد، وركود عربي ملحوظ ينزلق القائمون عليه والمستفيدون منه إلى تسليم متدرج به واستعداد متزايد لمصالحته وربما لمحالفته أيضاً بدعوى التضامن لمواجهة تهديد آخر يمثله الإسلام السلفيّ المتطرف والفارسي المتوثب.

ثالث التحديات، صعود العولمة بما هي حرية حركة انتقال الرساميل والخبرات والمهارات، وانفتاح الأسواق على بعضها بعضاً في شبه إطار توحيدي جارف وسط ثورة في عالم الاتصال والتواصل والمواصلات باتت معها المسافات مجرد حالة ذهنية. ذلك كله أدى إلى اتساع دائرة الهيمنة الأمريكية السياسية والعسكرية، وتعاظم وتيرة هجومها على حركات التحرر والمقاومة في ما أطلقت عليه زوراً مصطلح “الحرب على الإرهاب”.

رابع التحديات، صعود لافت للإسلام الحركي، لاسيما الجناح السلفي المتطرف في مروحة تنظيماته المتناسلة في أربع رياح الأرض، ونزوع تنظيمات في صفوفها إلى الالتقاء، وأحياناً إلى التحالف، مع الولايات المتحدة في حملة مواجهتها لحركات التحرر والمقاومة.

إن الفكر القومي الأصحّ القول الفكر العربي لاسيما جناحه النهضويّ الديمقراطي وجناحه الإسلامي الشوري محكومٌ عليه، وهو يواجه كل هذه التحديات، بأن يضطلع في الوقت نفسه، اليوم وغداً، بمهمة مراجعة تجربته وإعادة النظر بمناهجه وآلياته بما هي مناط تجديد نفسه والارتقاء بفعله وفعاليته الاجتماعية والثقافية والسياسية إلى حالة إنسانية أعلى وأغنى وأرفع.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)