شكلت نهايات النصف الأول من القرن الماضي وبدايات نصفه الثاني مرحلة تحولات عالمية كبرى أسست لعناوين سياسية واقتصادية وثقافية جديدة، ولا شك أن أهم تلك التحولات والعناوين كانت مرحلة الاستقلالات لدول "العالم الثالث" التي أُنجزت في معظم تلك الدول، سواء أكان بفعل نضال شعوبها أم نتيجة لتبدل وتغير المفاهيم والاستراتيجيات أم للسببين معاً، الأمر الذي أدى بالدول المستعمِرة آنذاك إلى انسحاب جيوشها من تلك البلدان وإعلانها للملأ دولاً مستقلة وذات سيادة.

فرنسا وبريطانيا كنموذج لتلك الدول المستعمِرة استطاعتا أن تستفيدا إلى حد بعيد من تلك المرحلة، حيث حافظت كل منهما على مستويات متباينة من العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، بما يحفظ مصالحها، مع البلدان المستعمَرة، ولنا في الفرانكفونية والكومنولث، كمثالين، ما يدل على رغبة الدولتين في المحافظة على إرثهما في مستعمراتها السابقة، وعلى الرغم من أن ظاهر الرابطتين المذكورتين يبدو ثقافياً وتشاركياً، إلا أنه لا يمكن أن يخفي "حنيناً" عند الدولتين إلى ذلك الماضي، لكن المفاهيم والمعادلات والاستراتيجيات الدولية الجديدة لم تعد تسمح باستحضار ذلك الحنين على هيئة واقع حالي. وهذا ما يعني زوال ما يسمى بالاستعمار والاحتلال العسكري الذي سوِّق له في الماضي تحت أكثر من عنوان ووفق أكثر من طريقة لتجميله وتلطيفه كالوصاية والانتداب والرعاية التي يجب أن تحظى بها الدول التي لم تكن قد بلغت حينها سن الرشد!!.

الولايات المتحدة التي كانت تجربتها محدودة في استعمار الدول واحتلالها في القرن الماضي إذا ما قورنت بغيرها من الدول والإمبراطوريات الاستعمارية، تضعنا اليوم أمام مفارقة حقيقية حينما تستحضر من الذاكرة ظاهرة الاحتلال العسكري التي سادت في القرن العشرين وما سبقه، في محاولة لإعادة إنعاشها وإحيائها مجدداً، على الرغم من أن الدهر قد أكل عليها وشرب و..!!.

النموذج الحاضر اليوم في العراق وأفغانستان "ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين"، يشي برغبة الولايات المتحدة في تقليب مواجع البشر ونكء جراحهم، على نحو مليء بالخشونة والصلف والقسوة والتهور، من خلال استعادتها لما كان ينغص حياة المجتمعات ويقضّ مضاجعها في حقبة الاستعمار والاحتلال العسكري ومصادرة الإرادة، ضاربة عرض الحائط كل ما سببته تلك الحقبة الاستعمارية من مآس وخسارات لكل شعوب الأرض دون استثناء، المستعمَرة منها والمستعمِرة على حد سواء، ومتجاهلة في الوقت عينه تجربتها العسكرية الفاقعة والمريرة في فييتنام والتي ربما تكون من أقسى التجارب الاستعمارية وأكثرها دموية على الولايات المتحدة وفييتنام في آن معاً.

الأسلوب الذي تتبعه الإدارة الأمريكية لتحقيق شعار "نشر الديمقراطية وتحرير الشعوب" بات أكثر من نكتة ثقيلة وسمجة، خصوصاً في عصر باتت تعتبر فيه كل دول العالم أنها قد تخطت ومنذ عقود عتبة الاستعمار بمفهومه التقليدي الكلاسيكي، ووجهه الأكثر بشاعة المتمثل بالاحتلال العسكري واستخدام القوة الغاشمة لبسط النفوذ والسيطرة والإرادة.

الغريب في الأمر أن الإدارة الأمريكية ما تزال مصرة على تجاهل الاستفادة من تجارب الدول الأخرى ومن الدروس والعبر التي مر بها العالم، وعلى تجاهل تجربتها هي نفسها التي لا تمحى من ذاكرة الأمريكيين.

يبدو أن تلك الإدارة تحتاج إلى عملية ترميم دقيقة وعاجلة لذاكرتها المثقوبة كي تستطيع الاحتفاظ بتجاربها وتجارب دول العالم، وبالتالي الاتعاظ منها والتعلم من دروسها، بدل الإصرار على المضي في بداية طريق وعرة أدرك الآخرون مخاطرها ودفعوا أثماناً باهظة نتيجة اختيارهم لها، لكنهم عادوا منها منذ زمن ليس بالقصير.. فهل تقبل الولايات المتحدة أن تتعلم؟!.

مصادر
سورية الغد (دمشق)