ليست مسألة مستحيلة لكنها على الأقل تبدو غائمة بعد أكثر من قرن على ما اصطلح على تسميته ببوادر النهضة العربية، فالموضوع ليس عودة إلى الوراء، أو مراجعة تاريخية لما قدمته هذه النهضة على امتداد سنواتها، لكنها محاولة لرسم "الانتماء" الذي يتخذ شكلا نظريا، أو مشروعا مستقبليا في مواجهة "حالة واقعية بقيت تؤرق دعاة القومية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.

والتحدي المطروح على المستوى القومي ليس فقط في "تعويم" هذا المصطلح الذي يراه البعض ينتمي لزمن آخر، لأن مشكلة "الهوية" تتدرج من الدولة باتجاه المواطن العادي، ومن الطبيعي أن ينشد "المواطن" للنموذج وليس للتفكير النظري، فـ"البناء القومي" في الفكر تبقى وظيفته الأساسية التعامل مع "المواطن" وليس فقط عملية تأسيس فكري مستمر.

وفي هذا الموضوع بالذات فإننا نستطيع أن ندخل إلى المؤتمر الذي انعقد أخيرا في دمشق، لأن صلب "الأزمة" فكرية بالدرجة الأولى، لكنها لا تظهر داخل واقعنا إلا من خلال التجليات السياسية، ورغم أن المؤتمر تعامل مع مساحة واسعة من الآراء المطروحة، إلا أن سمته السياسية بقيت ملازمة حتى في المداخلات، أو في تشخيص الواقع القائم، رغم ان المعطيات الحالية "السياسية" بالدرجة الأولى تدعونا من جديد لإعادة رسم "المشهد القومي"، فما يبدو من تفتيت يرسم نوعية "المشاريع البديلة"، وفي المقابل فإن "المواجهة" مع التفتيت لا تشكل بذاتها مشروعا، فالمقاومة هي في النهاية حالة طارئة يجب أن تكون دفاعا عن "المشروع" وليس فقط مواجهة لخطط بديلة.

عمليا فإن الغرق في طبيعة ما نسميه بـ"المشروع الأمريكي" وتحليل "حالة الممانعة" التي نجحت في استيعاب التحدي الذي ضرب الشرق الأوسط على الأقل، لا تعفينا من البحث عن "المشروع القومي"، وربما كان مفاجئا ما قدمه البيان الختامي لمؤتمر تجديد الفكر القومي في دمشق، لأنه عكس قناعات عامة، فالحوار الفكري الذي يعتبر ضروريا بقي على مساحة البحث دون إطلاق أسئلة جديدة توحي بأننا بالفعل انطلقنا باتجاه فضاء معرفي جديد لبحث مفهوم القومية.

كل التجارب السياسية أبقت على نفس الأسئلة المطروحة في عصر النهضة، ونستطيع اليوم تلمس إشكاليات متطابقة، مما يوحي بأن الحوار باق في نفس النقطة الأولى التي انطلق منها، أو اننا لا نستطيع امتلاك جرأة لإعادة صياغة الأسئلة من جديد بما يتوافق مع تجاربنا السابقة!!!

مع إدراكنا لأهمية "المؤتمر" كونه انعقد ليعيد الصلة بمسألة الانتماء، لكننا في نفس الوقت نبحث في المساحات الواجب فتحها أمام موضوع لم يحسم منذ أكثر من قرن... ربما علينا قراءة ما كتبه هنتنغتون بعد أحداث أيلول في كتابه "من نحن" ليس لنتعلم منه بل لنعرف أن "القومية" موضوع حيوي ومتحرك، ولا يملك الثبات في التفكير وسط عالم يتبدل.