هناك من ينادي بضرورة فتح ملفات حقبة الوجود السوري في لبنان ومحاكمة المسؤولين عن سوء التصرف طوال تلك الحقبة. ونحن نؤيد هذه الدعوة ليس من قبيل التطاول على الشقيقة سوريا بل من أجل جلاء الحقائق وتحديد المسؤوليات لما حصل خلال تلك الفترة. فالتنديد بما كان من أجهزة الأمن السورية يغفل ما كان من مشاركة وانصياع وتواطؤ من الجانب اللبناني. فلنحاكم أنفسنا فيما نحاسب سوريا على ما حصل.

نبدأ بدحض المقولة الرائجة إن لبنان وقع تحت الاحتلال السوري على امتداد ثلاثة عقود من الزمن (تحديداً 29 سنة). لم يكن الوجود السوري إبان معظم تلك المرحلة من قبيل الاحتلال، وقد دخل الجيش السوري أول ما دخل في عام 1976بناء على طلب من رئيس الجمهورية آنذاك سليمان فرنجية، وكان عضواً في تحالف ثلاثي إلى جانب الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميل. فاصطدم الجيش السوري عند دخوله مع القوى المناوئة، أي مع تحالف الحركة الوطنية والتنظيمات الفلسطينية. وعندما انعقدت القمة العربية في القاهرة في عام 1976 مثل لبنان فيها الرئيس المنتخب إلياس سركيس (ولم يكن قد تسلّم مهامه الرئاسية بعد)، فكان هو الذي طلب من القمة تشكيل قوات الردع العربية التي ضمت كتائب من بضع دول عربية، واندمجت القوة السورية فيها.

رافقت شخصياً الرئيس سركيس في تلك الرحلة كصديق (ولم أكن في موقع المسؤولية بعد) فسمعت مناشدة الرئيس سركيس كما سمعت مداخلات من الذين تحفظوا على احتمال طغيان سوري على قوات الردع المزمع تشكيلها. فكان رد الرئيس حافظ الأسد بالقول: "إن لبنان في حاجة إلى نحو ثلاثين ألف جندي عربي. فإذا قررتم الإسهام بتسعة وعشرين ألفاً فسوريا ستقدّم الرصيد المتبقي، اي ألف جندي. وإذا قررتم الإسهام بألف جندي فسوريا ستقدّم تسعة وعشرين ألفاً. الخيار لكم".

هكذا كان. فلقد ساهمت نحو عشر دول عربية في القوة المشتركة، وشكلت القوة السورية عمودها الفقري. إلا أن بعض الدول ما لبثت أن شرعت في سحب قواتها من لبنان تباعاً بعد أن ثبت عقم وجود القوة العربية في إنهاء الأزمة الدامية التي كانت تعصف بلبنان. وفي نهاية المطاف بقيت في الميدان القوات العربية السورية منفردة. فهل تكون القوات السورية قوات احتلال إذا ما أبقيت بطلب من رئيس لبنان؟ ولم يطلب خروجها بعد ذلك أي رئيس من الذين تعاقبوا على الحكم، علماً بأن السلطة الإجرائية في لبنان آنذاك كانت منوطة برئيس الجمهورية بحسب الدستور، بالطبع في ظل ممارسة تقوم على المشاركة.

في عام 1989 وُقع اتفاق الطائف الذي أنهى أزمة دامية استمرت أكثر من خمسة عشر عاماً. وجاء فيه نص يدعو إلى وضع اتفاق بين لبنان وسوريا، تعيد القوات العربية السورية بموجبه انتشارها بحيث تتمركز حصراً في منطقة البقاع وفي نقاط أخرى يتم التوافق عليها، على أن ينص الاتفاق على حجم القوة المتبقية وتحديد مهامها ومدة مكوثها. هذا النص لم ينفذ. وقد يكون السبب أن "إسرائيل" كانت تحتل مساحات واسعة من لبنان في الجنوب، فما كان من المصلحة، على ما قيل، مطالبة السوري بالمغادرة وهو كان يدعم الجيش اللبناني، فيما العدو "الإسرائيلي" قابع داخل لبنان.

هذه المقولة كانت تصح حتى 25 أيار/ أيار عام ،2000 حينما انسحب آخر جندي "إسرائيلي" من لبنان (ما عدا مزارع شبعا) تحت ضربات المقاومة اللبنانية. وكان يجب بعد ذلك وضع النص الوارد في اتفاق الطائف موضع التطبيق. فما صدر عن المسؤولين اللبنانيين شيء من ذلك، ولا بادرت سوريا من جانبها إلى مباشرة التطبيق. فكلاهما مسؤول.

إلى ذلك لم يكن أداء الأجهزة السورية في لبنان مقبولاً أو مسوّغاً، بل كان بالفعل مسيئاً في نواحٍ كثيرة، بما كان من تدخل في شؤون الإدارة العامة، وما كان من سلوك الأمن السوري مع المسؤولين اللبنانيين، وما تعرض له المواطنون من عسف أحياناً كثيرة. هذا كله صحيح، ويُسأل عنه قادة أجهزة الأمن السورية في لبنان، وكذلك القيادة السياسية في دمشق التي كان من المفترض أن تراقب وتتابع عن كثب ما يدور على يد أجهزتها.

إنني شخصياً توليت رئاسة الوزراء خمس مرات إبان حياتي السياسية، على امتداد ما يقارب العشر سنوات، إلى بضع سنوات أمضيتها وزيراً في حكومة الرئيس رشيد كرامي، وإلى تسلمي مقعداً نيابياً لدورتين متتاليتين على امتداد ثماني سنوات. وكانت لي تجارب في سياق هذه الممارسة أظهرت لي أن السوري مسؤول عما بدر منه، ولكن اللبناني في المقابل يشاطره المسؤولية بما أظهرمن استعداد لتقبل الممارسات الرعناء، لا بل في حالات كثيرة التواطؤ مع القائمين بها وجني المنافع من ثمراتها. لذا فإننا نؤاخذ أجهزة الأمن السورية على ما أقدمت عليه من تجاوزات إلا أننا أيضاً نؤاخذ أنفسنا، نحن اللبنانيين، على التجاوب مع هذه الممارسات والإفادة منها أو الإغضاء عنها. كثيراً ما نسمع تبريراً لهذا التقصير بأن ذلك كان يتم بفعل الضغوط أو التهديدات التي كانت تصدر عن الجانب السوري. قد يكون ثمة شيء من ذلك، ولكن لم يكن ما يبرر رضوخ مسؤول لبناني، يتمتع بالحد الأدنى من الكرامة، لأي ضغط أو تهديد فيتقبل ما ليس قانونياً أو مشروعاً أو سائغاً.

وأنا أشهد بأنني، إبّان وجودي في السلطة، تلقيت طلبات كثيرة من مسؤولين سوريين، فما لبيتها وما سمعت من أي منهم ما ينمّ عن تهديد أو ضغط من قريب أو بعيد. ولا أستبعد أن يكون المتذرعون بالتهديد والضغط إنما يتوخون تبرير تقصيرهم أو خنوعهم. بيْد أنني لا أنكر أن الأجهزة الأمنية السورية كانت لها أساليبها في الرد على عدم تجاوبي معها. كان من ذلك الإتيان بأحدهم وزيراً للداخلية في حكومة لاحقة بعد أن رفضت تعيينه مديراً لجهاز أمني. وربما كان من ذلك تعبئة أجهزة الأمن السورية واللبنانية في العمل ضدي خلال انتخابات العام ،2000 فكنت رئيس الحكومة الوحيد الذي يسقط في انتخابات نيابية في لبنان وهو في سدة المسؤولية.

بعد المرحلة الأخيرة التي توليت فيها رئاسة الوزراء، أي ما بين 1998 و،2000 أصدرت كتاباً سطّرت فيه تجاربي في الحكم خلال تلك الفترة، وفي الكتاب فصل بعنوان "بين سوريا وبيني"، سردت فيه بعض التدخلات التي أجراها معي سوريون وكيف كان ردي عليها. وقد صدر الكتاب في عام ،2001 أي يوم كانت القوات العربية السورية في لبنان.

خلاصة القول، إن السوريين ارتكبوا تجاوزات في لبنان، أفضت إلى تعكير العلاقة الأخوية بين البلدين الشقيقين، إلا أن اللبنانيين كانوا شركاء في هذه التجاوزات وهم، كما السوريون، يتحملون تبعاتها.

في أي حال لا يجوز أن تبقى العلاقة بين الدولتين الشقيقتين على ما هي عليه الآن من تشنج وجفاء وسلبية. فمصلحة لبنان، كما مصلحة سوريا، تقضي برأب الصدع وإعادة العافية كاملة إلى العلاقة بينهما. الطبيعي أن تكون هذه العلاقة دوماً مميزة على قاعدة الاحترام المتبادل واستقلال كل من البلدين وسيادتهما.

مصادر
الخليج (الإمارات العربية المتحدة)