الواقع أن موضوع نهاية إسرائيل متجذر في الوجدان الصهيوني. فحتى قبل إنشاء الدولة، أدرك عدد من الصهاينة الأوائل أن مشروعهم مستحيل، وأن الحلم الصهيوني سيتحول إلى كابوس. لذلك تجد الشاعر الإسرائيلي "حاييم جوري" يعتقد أن كل إسرائيلي يولد "وفي داخله السكين الذي سيذبحه"، فهذا التراب ("الإسرائيلي") لا يرتوي"، حيث إنه يطالب دائماً "بمزيد من المدافن وصناديق دفن الموتى". ورغم أن موضوع "النهاية" لا يحب أحد في إسرائيل مناقشته، فإنه يطل برأسه في الأزمات، وعلى سبيل المثال، حين قررت محكمة العدل الدولية عدم شرعية جدار الفصل العنصري، ازداد الحديث عن أن هذه هي بداية "النهاية"، وبعد هزيمة تموز، ازدادت شدة الكابوس أكثر فأكثر.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" (27/1/2002) مقالاً بعنوان "يشترون شققاً في الخارج تحسباً لليوم الأسود"، والمقصود هنا هم الإسرائيليون الذين غادروا حينئذ بالآلاف، أما "اليوم الأسود" فهو يوم نهاية إسرائيل!

أما "أبراهام بورغ"، رئيس "الكنيست" الإسرائيلي الأسبق، فيقول في مقال له
إن "نهاية المشروع الصهيوني على عتبات أبوابنا. وهناك امكانية حقيقية لأن يكون جيلنا آخر جيل صهيوني"، واصفا اسرائيل بأنها "معزل (غيتو) صهيوني" يحمل بذور زواله في ذاته، داعيا إلى حل الحركة الصهيونية، مرجعا دعوته إلى كون مؤسس الحركة ثيودور هيرتسل قال إن هذه الحركة "كانت صقالة لإقامة البيت ويجب حلها بعد إقامة الدولة". ويعتبر بورغ ان "وصف إسرائيل لذاتها بأنها دولة يهودية هو مفتاح زوالها، اذ إن دولة يهودية هي بمثابة مادة متفجرة، ديناميت".

والواقع ان ثمة تيار فكري وأكاديمي في إسرائيل، يتمثل بتيار "ما بعد الصهيونية"، يعتبر أن الصهيونية ماتت مع قيام مشروعها (إسرائيل)، وحتى إنه يرى ان قيام إسرائيل جريمة أخلاقية وسياسية وقانونية، كونها قامت على خرائب الشعب الفلسطيني، وهذا التيار يطالب بتصحيح الوضع بقيام دولة المواطنين أو دولة ثنائية القومية.
لكن ما هي الأسباب الرئيسية أو المؤشرات التي تشير الى اقتراب نهاية اسرائيل؟ سؤال سنحاول الاجابة عنه بشهادات من كتب وتقارير اسرائيلية.

الخطر الديمغرافي الفلسطيني

يعتبر وجود الشعب العربي الفلسطيني في وطنه وتكاثره الطبيعي خطراً على إسرائيل وعلى وجودها كدولة يهودية.
إذ يبلغ عدد السكان فيما يطلق عليه المؤلف "أرض إسرائيل الغربية" (أي فلسطين) وفق إحصاء 2006، 5.3 ملايين يهودي و5.3 ملايين عربي و300 ألف مهاجر روسي غير يهودي. والميزان الديمغرافي يسير لصالح العرب لارتفاع نسبة التكاثر الطبيعي لديهم.

كذلك لا يمكن الرهان على هجرة يهودية مرتفعة إلى إسرائيل ولا على هجرة طوعية مرتفعة للفلسطينيين من بلادهم، ومن غير المتوقع أن تقوم إسرائيل بطرد الفلسطينيين كما فعلت في سنة 1948، لأن الظروف مختلفة والمقاومة موجودة والدول العربية لن تسمح بذلك.
وتثير المعطيات الديمغرافية الفلسطينية في جوار فلسطين أيضاً، وليس فقط في فلسطين، قلق اسرائيل، إذ يقول إن عدد الفلسطينيين في الأردن يتراوح ما بين 3-4 ملايين نسمة، أي أن عدد الفلسطينيين في ما يطلق عليه الاسرائيليون "أرض إسرائيل التاريخية" التي تشمل فلسطين والأردن، يبلغ تسعة ملايين، ومن المتوقع أن يصل عددهم بعد عقد ونصف إلى ما بين 14 و15 مليونا، مقابل 6.3 ملايين يهودي.

ويعتقد الاسرائيليون أن هذا الواقع الجغرافي والديمغرافي يشكل مشكلة وخطراً إستراتيجياً على إسرائيل، ترتبط بمشكلة أخرى، هي التوزيع السكاني لليهود في إسرائيل.
إذ يقطن في تل أبيب وضواحيها 2.8 مليون يهودي، وفي حيفا الكبرى مليون يهودي، وفي منطقة أشكلون/أسدود 700 ألف يهودي، أي أن 4.5 ملايين يهودي من مجموع السكان اليهود في إسرائيل والبالغ عددهم 5.3 ملايين يسكنون في منطقة ضيقة على شاطئ البحر المتوسط، يحيط بهم 5.3 ملايين عربي.

ومشكلة أخرى يتذمر منها المؤلف وتثير قلقه تتعلق بالزيادة الطبيعية ونوعيتها، فبعد عقد ونصف سيزداد عدد سكان إسرائيل بـ2.2 مليون نسمة، وغالبية هذه الزيادة ستكون فقيرة، وستأتي من التكاثر الطبيعي للعرب واليهود "الحراديم" (الذين يعتبرون طبقة أقل من اليهود الغربيين).
وإذا فشلت إسرائيل، إزاء هذه الزيادة الكبيرة والفقيرة، في الحفاظ على مستوى حياة مرتفع فإن قسماً من الشباب الإسرائيلي ذي الثقافة الغربية سيهاجر من إسرائيل وسيأبى يهود العالم الهجرة إليها. هذا عدا عن الخطر الديمغرافي الإقليمي الآتي من الجوار العربي (مصر) .

كذلك يثير نمو البنى التحتية مثل الموانئ والمطارات ومحطات توليد الكهرباء ومنشآت النفط والغاز في الدول العربية، وخاصة المحاذية لإسرائيل، قلق اسرائيل، اذ يعتبر أن نمو وتطور البنى التحتية المدنية في الدول العربية هو أمر سلبي، لكونه يقلل من مصلحة اسرائيل في الحرب.

كذلك يتم الحديث عن الانقراض اليهودي الناتج عن اندماجهم في دول العالم وزواجهم وزواج أبنائهم وبناتهم من غير اليهود وهذا بدوره يساهم في انقراض السلاله اليهودية في العالم في ظل تنامي الإثنيات والأيديولوجيات والثقافات الأخرى في المنطقة.
ويرى تقرير "حال الشعب اليهودي في العام 2004: عوامل التأثير على اليهود في عالم متغير- بين التقدم والتراجع" الصادر عن معهد تخطيط السياسات للشعب اليهودي بتكليف من الوكالة اليهودية العالمية، ان من المخاطر على اليهود حالة التعددية الإثنية والثقافية في إسرائيل التي أدت إلى ظاهرة الزواج المختلط بين الأديان، وتغريب الزواج، أي بين الأعراق اليهودية نفسها، إذ يعتبرها التقرير أمرا خطيرا!، وتمثل الزيجات خارج الدين نصف حالات الزواج في المجتمعات اليهودية.

وقد أفادت معطيات التقرير بأن أعلى نسبة للزواج المختلط لليهود هي في روسيا وأوكرانيا، حيث بلغت 80%. وفي ألمانيا وهنغاريا 60%، وفي الولايات المتحدة 54%، وفي فرنسا وبريطانيا والأرجنتين 45%، وفي كندا 35%، وفي أستراليا 22%، وفي جنوب أفريقيا 20%، وفي المكسيك 10%. أما في إسرائيل فإن نسبة الزواج المختلط لا تتجاوز 5%.

الهجرة

وِفق المعطيات الأخيرة التي تقدمها تقارير صحفية ومعلومات من وزارة الداخلية الاسرائيلية، فان الأسباب الرئيسية للهجرة المعاكسة تنبع في الأساس من أسباب اقتصادية، كالبطالة وغلاء المعيشة ونسب الضرائب العالية في إسرائيل (تصل نسب ضريبة الدخل إلى 49% من المعاش بينما تصل في روسيا إلى 13%). وهناك عامل إضافي للهجرة نابع من رغبة الطلاب الجامعيين والباحثين الأكاديميين في استكمال دراستهم وأبحاثهم في بيئة تهيئ ظروف بحث ودراسة أفضل، مما يمكن أن يحصلوا عليه في إسرائيل.

كذلك زادت الحرب الأخيرة على لبنان من عدد الراغبين في ترك إسرائيل، فبحسب مسؤول وِحدة الهجرة والاستيعاب في مركز الحكم المحلي في إسرائيل ميخائيل جنكر، هذه الحرب زادت من عدد المتقدّمين بطلبات لمغادرة إسرائيل، في اشارة إلى ارتفاع حالات الضغط والتوتر وسط الجمهور الإسرائيلي مع تركيز أكبر على "أوساط القادمين الجدد". ووفق جنكر، الحرب "أدّت إلى زيادة الشعور بانعدام الأمن الشخصي والعام والى خيبة أمل قوية من كيفية تصرف الدولة على الصعيدين، السياسي والعسكري".

كذلك ارتفع عدد المهاجرين الروس الذين غادروا "إسرائيل" عائدين إلى روسيا في السنوات الأربع الماضية بنسبة 600%. وفي هذا النطاق، أفادت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مؤخراً بأن 50 ألف إسرائيلي يعيشون الآن في الاتحاد الروسي. ومن جهة أخرى، أشار مكتب الإحصاء المركزي في روسيا إلى أن 28500 إسرائيلي من أصول روسية عادوا لبلدهم الأصلي منذ بداية العقد الماضي، فيما تشير تقديرات السفارة الإسرائيلية بموسكو إلى أن آلافاً أخرى من الإسرائيليين يعيشون في روسيا بموجب تأشيرات دخول عادية ولم يتقدموا بطلبات هجرة، ولذلك فإن معطيات مكتب الإحصاء الروسي لم تشملهم.
وبحسب مُـعطيات في وزارة الداخلية الاسرائيلية، فإن 775 إسرائيلي تقدّموا بطلبات للتنازل عن جنسيتهم الإسرائيلية، والعدد الى ازدياد.

ظاهرة "هجرة العقول"

في أحدث بحث إسرائيلي عن الموضوع، نُـشر في مايو 2006، قام به اريك غواد وعمر مواب من كلية الاقتصاد في الجامعة العِـبرية في القدس، اتضح أن إسرائيل تُـواجه في السنوات الأخيرة ما يُـسمّـى بظاهرة "هجرة العقول"، ووفق معطيات البحث، فإن 2.6% من مُـجمل اليهود المتزوِّجين والمتعلمين ما بين سن 25 إلى 40 عاما يعدُّون "مغادرين" وفق لجنة الإحصاء المركزية في إسرائيل مقابل 1.1% من المتعلِّـمين ذوي الثقافة المحدودة.

ان نسبة الهجرة وسط السِّـلك الأكاديمي الكبير من حمَـلة شهادات "البروفيسوراة"، يصل إلى %6.55، يتبعهم الأطباء بنسبة 4.8% والمهندسون والباحثون بـ 3%. وقد وجد معدا البحث أن نسبة الهجرة تسير بشكل طردي مع ارتفاع سنوات التعليم.
بحسب معطيات لجنة الإحصاء المركزية في إسرائيل، هناك 750 ألف إسرائيلي يعيشون خارج إسرائيل، والجزء الأكبر في الولايات المتحدة وكندا، أي أن ما يعد 12.5% من مجمل اليهود في إسرائيل يعيشون اليوم في أمريكا الشمالية.
وبحسب نفس البحث، فقد ترك إسرائيل ما عدَده تسعة عشر ألف إسرائيلي سنويا ما بين العامين 2002 و2004، في حين ارتفع هذا العدد إلى 25000 شخص عام 2005.

هزيمة تموز: اسرائيل زرعت بذور نهايتها بيدها

يقول مؤسس الدولة العبرية دايفيد بن غوريون "ان اسرائيل تسقط بعد أول هزيمة تتلقاها"، وبكل تجرد وبعيدا عن العواطف، لقد خسرت اسرائيل حرب تموز امام حزب الله باعترافها هي وباعتراف كل دول العالم، وفشلت فيها بكل المقاييس، وما تقرير فينوغراد والبلبلة والصدمات والتصريحات والاستقالات سوى تعبير عن هذه الهزيمة.
ويقول "آلن هارت"، صحافي بريطاني بارز ومخضرم وباحث في الشؤون الاسرائيلية، في مقال بعنوان "بداية نهاية دولة اسرائيل الصهيونية" : " موشيه دايان اعتبر أن حال التوتر الدائم هي «مخدر الحياة» بالنسبة لاسرائيل ، وبالتالي فاسرائيل هي دولة قائمة على العسكرة وقوة جيشها. في رأيي إن بذور تلك الهزيمة الممكنة تم زراعتها في لبنان، والحقيقة أن المغامرة العسكرية الأخيرة لإسرائيل كانت ذات نتيجة عكسية كلياً وفي ذلك فإن حزب الله حصد الإعجاب والاحترام من الجماهير الغاضبة والمهزومة في العالمين العربي والإسلامي ما دفعهم للانخراط أكثر في المقاومة ودعمها وتشجيعها".

وبما أن اسرائيل هي كيان قائم ومبني على قوة الجيش، فان حرب لبنان التي نالت من سمعة الجيش الاسرائيلي وهيبته ودولته ككل، وضعت الدولة العبرية أمام سنوات عصيبة من فقدان الثقة بالنفس وفي الجيش المكسور والفاقد لقوة الردع، فيما أعادت الثقة وضخت دماء جديدة في جسم حركات المقاومة العربية والشعوب العربية ما يضع مستقبل اسرائيل في دائرة الخطر في السنوات القادمة.

كذلك فان هزيمة تموز ضد لبنان أدت الى تدهور الوضع الاجتماعي، فقد أظهرت نتائج بحث خاص أجري حول آثار حرب لبنان على الفقر، بأن هذه الحرب ستدفع حوالي ٤٢ الفا آخرين الى ما دون خط الفقر كل سنة خلال السنوات الثلاث المقبلة. وأظهر البحث ان عدد الفقراء سيبلغ نحو مليون و ٦٥٠ الف نسمة.

لكل هذا عاد هاجس النهاية مرة أخرى بعد الحرب السادسة وبعد الصمود اللبناني العظيم في وجه الهمجية الإسرائيلية، وبعد إبداع المقاومة اللبنانية.
فقد اكتشف الصهاينة حدود القوة ووصلوا إلى مشارف النهاية، وكما قال المثقف الإسرائيلي شلومو رايخ "إن إسرائيل تركض من نصر إلى نصر حتى تصل إلى نهايتها المحتومة".
فالانتصارات العسكرية لم تحقق شيئا، لأن المقاومة مستمرة ما يؤدى إلى ما سماه المؤرخ الإسرائيلي يعقوب تالمون (نقلا عن هيغل) "عقم الانتصار".

واحدى الروايات التي فضحت ما تبقى من هيبة الجيش المكسور والواهن بعد حرب تموز، ما كشفته الصحف الاسرائيلية عن أن الجهات العسكرية المختصة بدأت تبحث إمكانية تزويد طياري سلاح الجو بحبوب الفياغرا. والسبب هو أن هذا المنشط من شأنه التخفيف من مشكلات الضغط الجوي والنفسي التي يتعرضون لها عندما يذهبون في مهمات قتالية. والطريف هو أن الخبر اختُتم بهذا السؤال: ولكن ماذا سيحدث لهؤلاء عندما يعودون الى الأرض؟

سقوط الرافعة الإيديولوجية ل"دولة اسرائيل"

ان الأساطير المؤسسة للدولة التي يبدو أن معينها نضب أو كاد، ففي المرحلة التحضيرية لإقامة الدولة ثم بعد إقامتها في العام 1948 وعلى مدى ربع قرن بالتمام والكمال شكلت هذه الأساطير كأسطورة “أرض الميعاد” أو “أرض اسرائيل” و“الشعب المختار” و“النقاء العرقي” و“المحرقة” النازية.. نوعاً من رافعة إيديولوجية وإسناد تاريخي–أخلاقي للمشروع الصهيوني وتحولاته من التوسع الى الاستيطان عبر الحروب والاعتداءات المدبرة على العرب. لكن هذا كله توقف. وكثير من الباحثين والمؤرخين وأهل الاختصاص عادوا وأخضعوا هذه الأساطير للمراجعة والنقد في ضوء المعطيات التاريخية والأركيولوجية، والجميع توصلوا الى نتائج متشابهة مفادها أنها اساطير وخرافات لا أساس لها في فلسطين، ومصدرها بلاد ما بين النهرين وجزيرة العرب ومصر. ثم جاء المؤرخون الجدد في اسرائيل بالذات لينفضوا الغبار عن المظالم التي لحقت بالفلسطينيين وعن الأكاذيب المتعلقة بالاستيطان والمذابح التي تعرضوا لها أيضا، ويقدموا روايات مغايرة للروايات السائدة في اسرائيل حول هذا كله.

ان هذه المادة الغزيرة أضعفت الحجة من وراء إقامة الدولة بالطريقة التي قامت بها، وشككت بأقدس المرجعيات الدينية والأيديولوجية التي أشرنا اليها، وهذا ما أدى الى فقدان الكثير من القيم والى تشتت المجتمع الذي كان موحدا في وقت مضى.

الأزمة الاقتصادية: من دولة "الكيبوتس" الى دولة "المنفعة الفردية"

أحد عناوين "الأزمة الكيانية" الاسرائيلية هو الاقتصاد. وبكلام أوضح فقد تغير المشهد والإيقاع في اسرائيل خصوصاً بعد حرب يونيو(حزيران) 1967، وتمثل ذلك بارتفاع معدلات الهجرة من "الشتات" والشروع في عمليات استيطان واسعة في الأراضي المحتلة. وبالتالي في ارتفاع معدلات النمو في القطاعات الاقتصادية المختلفة الإنتاجية والخدماتية. وباختصار كانت اسرائيل دولة (الكيبوتز) أو التعاونية الزراعية وتتسم بدرجة عالية من الدفء والتجانس الاجتماعي ثم أصبحت دولة برجوازية تديرها الشركات العملاقة ومصانع السلاح والالكترونيات، وبرزت بالتالي الفروق الطبقية وصار الركض وراء المنفعة والجاه والصالونات والمتعة شأناً عادياً حتى بالنسبة للجنرالات. وهنا يقول العقيد في الاحتياط عومر بارليف إن أزمة القيم في الجيش هي أزمة المجتمع برمته. ويضيف: إسرائيل تحولت الى محتمع وفرة للبعض وفقر للبعض الآخر، وحين يكون النجاح الاقتصادي اسمى القيم وتكون الفردية مهيمنة لا يعود الناس مستعدين للتضحية بأنفسهم. وقال إن تراجع الجيش في الحروب ناتج عن الانقسامات العميقة في المجتمع نتيجة عوامل عديدة أبرزها احتلال الأراضي الفلسطينية المستمر منذ 40 عاماً. لذلك لا يريد الجميع الموت في سبيل الخليل ونابلس حتى تبقى هاتان المدينتان تحت سيطرة اسرائيل.

غياب القيادة الحكيمة والقوية

يعتبر قادة الرأي الصهاينة أن انحراف القائد في إسرائيل عن يهوديته وصهيونيته سيؤدي إلى حالة من الانهيار والاندثار في ظل الصراع الديمغرافي القائم في المنطقة والذي تعتبر فيه إسرائيل الخاسر الأكبر.
ويجري الحديث في شكل متزايد في سرائيل عن خلل او ثغرات في عملية اتخاذ القرارات الاستراتيجية والمصيرية الكبرى، وعن افتقاد اسرائيل الى عقل استراتيجي، الى درجة ان أيا من القرارات الاستراتيجية والمصيرية الكبرى التي اتخذت خلال العقد الأخير لم يعرض للبحث أوالفحص الاستراتيجي العميق والدقيق، والدليل على ذلك خطة فك الارتباط والانفصال الأحادي الجانب عن الفلسطينيين في قطاع غزة، وقرار الانسحاب الأحادي الجانب من لبنان في صيف العام ٢٠٠٠، وقرار الذهاب الى الحرب ضد لبنان. كل هذه القرارات اتخذت من دون بحث عميق متعدد الجوانب والأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية.

ويشير كتاب "رسالة الى القائد" للكاتب الاسرائيلي الصهيوني المتطرف "يحسكل درور" إلى إخفاقات كثيرة تسبب بها قادة إسرائيل، وهذه الإخفاقات ليس بالضرورة أن تكون عسكرية بقدر ما هي اجتماعية ودينية وسياسية وثقافية انعكست على واقع الشعب اليهودي وتطلعاته في إسرائيل.
ويعزو الكتاب السبب في هذا الإخفاق إلى التحلل الديني والتراثي والأخلاقي لدى القيادات اليهودية في إسرائيل والتي شكل الصراع الذاتي الشخصي الجزء الأكبر منها في ظل صراع أيديولوجي مستفحل في المنطقة الأمر الذي يهدد إسرائيل ككيان في وجودها ومستقبلها.

ويرى المؤلف أن انحراف القيادة عن أصالة الصراع وتفرغها نحو المغانم الحزبية الشخصية حرف مسار الصراع وأثر على مستقبل الدولة بحيث بات يذود عن حماها -كما يشير الكاتب- أناس ليسوا بأمناء على المستقبل اليهودي، فمنهم متحللون من الدين وعصفوا بصهيونيتهم وبات عملهم السياسي بعيدا عن الأخلاق والتراث اليهودي الذي جاءت به تعاليم التوراة. وأصبح الهم الأكبر للقيادات الإسرائيلية أن تكون أولا في موقعها وبرجها العاجي. على حساب الأجيال وأيديولوجية الشعب.

فقدان العقيدة الصهيونية والتشبه بالغرب

يشير كتاب "رسالة للقائد" الذي ذكرناه سابقا إلى انحدار في ميول الجيل الجديد وخاصة الشباب في إسرائيل نحو القيم اليهودية والصهيونية وذلك بسبب فراغ الساحة اليهودية من زعماء روحيين صادقين ذوي قيمة سلوكية عالية مقبولة في المجتمع ولدى الشعب اليهودي إضافة إلى تمتعها بمكانة دولية.
ويؤكد المؤلف على هذه الحقيقة في فصل كامل بعنوان (البوصلة الأخلاقية اليهودية والصهيونية من خلال القيم الإنسانية) حيث يصور في هذا الفصل أن الأخلاق والقيم اليهودية في تراجع وفي أزمة ولهذا فإن التحدي يكون في الحفاظ على يهودية الدولة والأجيال.

ويرى المؤلف أن انحراف القادة في إسرائيل نحو الحزبية الضيقة والبحث عن المصالح الذاتية من خلال سياسة صراع الأحزاب والتنافس الانتخابي أدى إلى تراجع في الفكر والفلسفة اليهودية الصهيونية ولهذا استغل المؤلف كتابه ليوجه من خلاله رسائل إلى قادة إسرائيل حيث يقول "يجب على رئيس الحكومة ومسؤولي المعارضة وأعضاء الكنيست والشعب الإسرائيلي العمل على تعميق فكرة أن إسرائيل دولة يهودية صهيونية خاصة بالشعب اليهودي".
ويستعرض الكتاب ميول الشبيبة اليهودية في إسرائيل والتي تأثرت بالغرب وحضارته وبات الدين والقومية في إسرائيل بالنسبة لها دربا من الخيال والأساطير ولهذا يدعو المؤلف هذه الشبيبة لضرورة التمسك بالقيم والأخلاق اليهودية والصهيونية ذات القيمة العالية التي تؤدي إلى قوة وثورة نحو الأصالة التي مسخها السياسيون المعاصرون.

وبالنسبة للعديد من علماء الاجتماع وأساتذة الفلسفة في الجامعات الإسرائيلية، فإن "عهد الصهيونية كدين مجمع للإسرائيليين انتهى".. "النظرية الصهيونية والقيم المرتبطة بها، التي شكلت الصمغ للمجتمع الإسرائيلي تحديدا في سنواته الأولى، لم تعد كذلك".. "الرغبة بالتشبه بالقيم الاجتماعية والسياسية الأمريكية باتت الأمر الأساسي المشترك بين الإسرائيليين".. "عصر العقائدية والايديولوجيا تراجع أيضا في إسرائيل لصالح القِـيم الفردية لصالح الخاص على حساب العام، مع بقاء الشروخ الاجتماعية المهدّدة للهوية الإسرائيلية العامة على حالها وسط استمرار التقاطب بين المتديِّـنين والعِـلمانيين والشرقيين والغربيين، وازدياد التقاطب الطبقي واستمرار الصراع مع الفلسطينيين مع النقاش الحاد، الذي يخلقه بين اليسار واليمين، ووجود أقلية فلسطينية داخل إسرائيل تشكَّـل للبعض منهم تهديدا استراتيجيا".هذا التفسخ في نظرية الدين الجامع لبني اسرائيل، له أثر كبير في تزايد الهجرة المعاكسة من "أرض الميعاد".
ومن أبرز الأمثلة على فقدان القيم والعقيدة الصهيوينية، "موضة" الصليب المعقوف الذي كان يميّز العلم الألماني، إبأن حكم النازية المتهمة كما هو معروف، بالمحرقة أو "الهولوكوست" ومقتل ستة ملايين يهودي بحسب المزاعم الشائعة، ظهر أخيراً في بعض أوساط الشبيبة الاسرائيلية الذين تخطوا كل المحرمات والاعتبارات وأعلنوها من تل أبيب صريحة واضحة: نحن نازيون!

الغرق في مستنقع أخلاقي وتزايد الفساد

الأزمة العاصفة بإسرائيل اليوم ليست أزمة عابرة او طارئة، بل أزمة تختزن الكثير من التناقضات التي تشير الى أي مدى بات المشروع الاسرائيلي يعيش في مأزق استراتيجي وتكتيكي في آن معا". فالمشروع الاسرائيلي الذي كان يتفاخر بأن قادته هم قادة نزهاء و"وطنيون"، بات اليوم يفتقد الى هؤلاء القادة.

فاسرائيل اليوم تواجه سلسلة من الفضائح التي تحيط بزعمائها، وباتت تبدو وكأنها مستنقع أخلاقي مع تلاحق قضايا الفساد والسلوكيات غير الأخلاقية (اختلاس، تلاعب بالأموال العامة، فضائح جنسية، محسوبيات..) من جانب كل مؤسسات الحكم في الدولة: الرئيس، رئيس الحكومة، الوزراء وأعضاء الكنيست، قضاة خانوا الأمانة، حاخامات قاموا بأعمال مشينة، رئيس أركان الجيش وقائد عام الشرطة لم يقوما بواجباتهما، سلطات الضريبة، وموظفون في مجالات أخرى.

كما أن هناك شعور متزايد بالفساد المستشري في النظام السياسي الاسرائيلي، ذلك ان هذا النظام غير قادر على توفير سياسة اجتماعية مقبولة تقلل من الفقر وعدم المساواة والبطالة، كما انه لم يحدث ان أظهر الشارع الاسرائيلي، الأغنياء والفقراء، اليمين واليسار والوسط المنهار، احتقارا تاما للحكومة كما هي الحال الآن.

والاحصائيات في اسرائيل تقول: ليس لدى الجمهور ثقة في ان المنظومة السياسية قادرة على منحه الأمان الشخصي والاجتماعي، وهناك هبوط في مستوى فعالية السلطة بحيث باتت غير قادرة عمليا على تجسيد السياسة التي قررتها (عدم قدرتها على جباية الضرائب) وسلطة القانون باتت موضع شك، بالاضافة الى تدهور مستوى الثقة بكل المؤسسات القومية بما فيها الجيش والمحكمة العليا والشرطة ومؤسسات أخرى كانت تحظى بنسبة ثقة عالية جدا". لقد أفادت الاحصائيات الأخيرة أن معدل البطالة يبلغ ٨٫٣ بالمائة، ومعدل الفقر لا زال مرتفعاً الى حد كبير، كما ان الدخل الحقيقي وسط أكثر قطاعات الاسرائيليين فقرا أقل مما كان عليه قبل ست سنوات.

التمييز الطبقي والاثني بين الاسرائيليين

تؤشر الانتخابات الإسرائيلية على حالة من التشتت والتمزق والصراع داخل إسرائيل، وانهيار الأحزاب التقليدية الكبرى التي أسست الحركة الصهيونية وإسرائيل، وقادتها لأكثر من 30 سنة، وتنامي تأثير اليهود الشرقيين السفارديم وزحفهم نحو قيادة دولة إسرائيل، وهم بنظر الإشكناز المؤسسين للصهيونية وإسرائيل لا يختلفون عن العرب.

ويمثل الروس حالة عصية على الهضم والفهم في إسرائيل، فلا هم يهود ولا هم إسرائيليون غربيون إشكناز ولا هم شرقيون سفارديم، إنهم فقط "روس" ينتمون إلى المافيا والفودكا والشيوعية السابقة والقيصرية واليهودية الروسية المتميزة أكثر مما ينتمون إلى إسرائيل.

وقد تعمدت السياسات الإسرائيلية حجب التعليم الثانوي عن أبناء السفارديم لكي يستمروا في الأعمال الزراعية والأعمال غير الماهرة، وليبقوا طبقة دونية في المجتمع الإسرائيلي.

وربما يكون من أسباب التحول الكبير الذي جرى عام 1977 في إسرائيل الاتجاه الكبير للشرقيين إلى إسقاط حزب العمل المسؤول عن السياسات المتحيزة والتمييزية تجاه الشرقيين، ويقدر أن 80% منهم قد أعطوا أصواتهم للأحزاب اليمينية عام 1992.

وربما يكون الوضع الأمني غير المستقر عاملا في توحيد المجموعات اليهودية وتأجيل الصراع الإثني والثقافي والطبقي، ولكن المشكلة بدأت بالظهور مؤخرا على نحو قوي وواضح مثل الصراع بين المتدينين والعلمانيين والتمايز الروسي.

ولم يقتصر الانقسام الإسرائيلي على الانتخابات، بل امتد إلى المجالات الاجتماعية أيضا، وبدأت هيمنة السياسة الطائفية في إسرائيل، فقد برزت الأحزاب الطائفية مثل شاس، وبدأ الشرقيون يحتلون مناصب مهمة ويشاركون في السلطة المحلية ويؤثرون في الأحزاب السياسية.

إن الطبقة المؤسسة من الغربيين الإشكناز أو "الأحوساليم" تبدو متجهة إلى الانحسار وربما الأفول بعد أكثر من نصف قرن من الهيمنة والتسلط، وكانت نتائج الانتخابات الأخيرة في إسرائيل خاصة عام 2001 كما يصفها باحث إسرائيلي الحلقة النهائية، على الصعيدين الرمزي والسياسي، في سيرة "الاحوساليم".

وتشهد الواجهة السياسية الإسرائيلية اليوم صعودا لافتا للقيادات الشرقية، ففي الليكود هناك ديفد ليفي ومئير شتريت وموشيه قصاب الذي تدرج حتى صار رئيس دولة، وسلفان شالوم (وزير المالية في حكومة شارون) وشاؤول عمور، وفي حزب العمل أيضا وصل إلى الصف الأول عدد كبير من الشرقيين، مثل بنيامين بن إليعازر، وشلومو بن عامي، ورعنان كوهين، ورافي أدري، ورافي ألول، وإيلي بن مناحم وعمير بيرتس (رئيس "الهستدروت الجديدة") وغيرهم.
ويعتبر عدد من المفكرين الاسرائيليين أن تحول اسرائيل الى دولة "شرقية" أو تقليدية متطرفة يفقدها الكثير من الدعم الغربي ويتحول الى "لعنة" على اليهود كما كان اللورد روتشيلد يقول.

تناقض اسرائيل الناتج عن طبيعتها

إذا تفحصنا إسرائيل جيدا فسنجد أنها، وبسبب طبيعتها وطريقة تكونها التاريخي، مليئة بالتناقضات، فهذه الدولة لم تقم كنتاج طبيعي لتطور المجتمع الاستيطاني في فلسطين، وإنما قامت بفعل الهجرة الاستيطانية إلى هذا البلد، منذ أواخر القرن التاسع عشر. وهذه الدولة لم تقم بطريقة سلمية، أو نتيجة التوافق مع أهل الأرض الأصليين، وإنما قامت بالوسائل العسكرية، أي بالقوة وبالرغم من إرادة أصحاب هذه الأرض.

المعروف أن كل الدول الحديثة في العالم نشأت كنتاج لتطور تاريخي لكتلة مجتمعية معينة في إقليم جغرافي معين، حتى الولايات المتحدة وأستراليا وكندا (التي قامت على الاستيطان)، إلا إسرائيل فهي نشاز في ذلك، فقد أنشئت مؤسسات الدولة، وجلب المجتمع عبر الهجرة والاستيطان، وتم استلاب الأرض، لإعلان قيام الدولة عليها في مايو من عام 1948.
مشكلة إسرائيل أنها أيضا فريدة من نوعها في التناقضات التي نشأت معها منذ قيامها، فهذه الدولة ادّعت العلمانية في حين أنها دولة دينية، في قوانينها ورموزها والأيدلوجية التي حكمت قيامها. وهذه الدولة التي اعتبرت نفسها واحة الديمقراطية والحداثة في الشرق الأوسط، تعتبر نفسها دولة يهودية، ما يجعل منها دولة عنصرية، كونها تمارس التمييز ضد السكان من مواطنيها بسبب الدين والقومية. ثم إن هذه الدولة تتحدث عن الجماعة الدينية بوصفها جماعة قومية!
وباختصار فثمة تناقضات مستحكمة في إسرائيل من نوع التناقض بين العلمانيين والمتدينين، والشرقيين والغربيين، والعرب واليهود، وبين كون إسرائيل مركز اليهودية أم أحد مراكزهم، وبين اليهودية كهوية قومية والإسرائيلية كهوية قومية متعينة، وبين أنصار التسوية ومعارضيها.

فوق كل ذلك فإن إسرائيل ظلت محكومة بتناقضاتها الخارجية، فهذه الدولة، بسبب من طبيعتها الاستيطانية العنصرية الغيبيّة، لم تستطع إجراء مصالحة تاريخية مع أصحاب هذه المنطقة (العرب عموما والفلسطينيين خصوصا)، على العكس من ذلك فهي ظلت تعتدي عليهم وتحتل المزيد من أرضهم، إضافة إلى أنها لم ترض القيام بإيجاد تسوية للتصالح مع تاريخ المنطقة وجغرافيتها وثقافتها، إذ ظلت تعتبر قيامها حقا مطلقا، بتبريرات سياسية وعنصرية. هكذا رفضت إسرائيل تحديد حدودها الجغرافية لدواع أمنية، كما أنها رفضت الاندراج في التاريخ الثقافي للمنطقة، برغم أنها مهد الديانة اليهودية، مفضلة اعتبار نفسها امتدادا للغرب، وجزءا من حضارته!

هكذا صعُب على إسرائيل، باعتبارها دولة استيطانية ـ إحلالية، قامت بوسائل القوة والقهر، وعلى أساس ادعاءات دينية ـ أسطورية، التوجه بذاتها نحو مصالحة مع تاريخها ومحيطها، برغم التحولات الدولية والإقليمية الحاصلة لصالحها، لأن هذا يتنافى مع مبررات وجودها السياسية والأخلاقية والأيدلوجية.
ولعل قصة "مواجهة في الغابة" للروائي الإسرائيلي أبراهام يهوشوا ( كتبت في النصف الأول من الستينيات) هي دليل واضح على عقدة الذنب الاسرائيلية الناجمة عن معرفتهم بأن كيانهم هو كيان غريب ومصطنع في منطقة الشق الأوسط. وتتحدث الرواية عن الحالة النفسية لطالب إسرائيلي عين حارسا لغابة غرسها الصندوق القومي اليهودي في موقع قرية عربية أزالها الصهاينة مع ما أزالوه من قرى ومدن. ورغم أن هذا الحارس ينشد الوحدة، فإنه يقابل عربيا عجوزا أبكم من أهل القرية يقوم هو وابنته برعاية الغابة، وتنشأ علاقة حب وكره بين العربي والإسرائيلي، فالإسرائيلي يخشى انتقام العربي الذي أصيب بعاهته أثناء عملية التنظيف العرقي التي قام بها الصهاينة عام 1948. ولكن ورغم هذا يجد نفسه منجذبا إلى العجوز العربي بصورة غير عادية، بل يكتشف أنه يحاول، بلا وعي، مساعدته في إشعال النار في الغابة. وفي النهاية، عندما ينجح العربي في أن يضرم النار في الغابة، يتخلص الحارس من كل مشاعره المكبوتة، ويشعر براحة غريبة بعد احتراق الغابة، أي بعد نهاية إسرائيل!

المشروع الصهيوني والمشروع الفرنجي: نهاية واحدة}

يدرك المستوطنون الصهاينة أن ثمة قانونا يسري على كل الجيوب الاستيطانية، وهو أن الجيوب التي أبادت السكان الأصليين (مثل أميركا الشمالية وأستراليا) كتب لها البقاء، أما تلك التي أخفقت في إبادة السكان الأصليين (مثل ممالك الفرنجة التي يقال لها الصليبية والجزائر وجنوب أفريقيا) فكان مصيرها الزوال.

ويدرك المستوطنون الصهاينة جيدا أن جيبهم الاستيطاني ينتمي لهذا النمط الثاني (اذ أن الفلسطينيون ما زالوا متواجدين في فلسطين ويتكاثرون) وأنه لا يشكل أي استثناء لهذا القانون، إن الصهاينة يدركون أنهم يعيشون في نفس الأرض التي أقيمت فيها ممالك الفرنجة وتحيط بهم خرائب قلاع الفرنجة، التي تذكرهم بهذه التجربة الاستيطانية التي أخفقت وزالت.
ومما يعمق من هاجس النهاية أن الوجدان الغربي والصهيوني يوحد من البداية بين المشروع الصليبي والمشروع الصهيوني ويقرن بينهما، فلويد جورج رئيس الوزارة البريطانية التي أصدرت وعد بلفور، صرح بأن الجنرال اللنبي الذي قاد القوات الإنجليزية التي احتلت فلسطين شن وربح آخر الحملات الصليبية وأعظمها انتصارا.

ويمكننا أن نقول إن المشروع الصهيوني هو نفسه المشروع الفرنجي بعد أن تمت علمنته، وبعد أن تم إحلال المادة البشرية اليهودية التي تم تحديثها وتطبيعها وتغريبها وعلمنتها محل المادة البشرية المسيحية.
لكل هذا يدرس العلماء الإسرائيليون المقومات البشرية والاقتصادية والعسكرية للكيان الفرنجي، والعلاقة بين هذا الكيان والوطن الأصلي المساند له. وقد وجه كثير من الباحثين الصهاينة اهتمامهم لدراسة مشكلات الاستيطان والهجرة التي واجهها الكيان الفرنجى ومحاولة فهم عوامل الإخفاق والفشل التي أودت به.
ولكن الاهتمام لا يقتصر على الدوائر الأكاديمية، فنجد أن شخصيات سياسية عامة مثل إسحق رابين وموشيه ديان يهتمون بمشاكل الاستيطان والهجرة. ففي سبتمبر/ أيلول 1970 عقد إسحق رابين مقارنة بين ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية حيث توصل إلى أن الخطر الأساسي الذي يهدد إسرائيل هو تجميد الهجرة، وأن هذا هو الذي سيؤدي إلى اضمحلال الدولة بسبب عدم سريان دم جديد فيها.

ويورى أفنيرى، الكاتب الصحفي الإسرائيلي، وعضو الكنيست السابق، كان من المستوطنين الصهاينة الذين أدركوا منذ البداية استحالة تحقيق المشروع أو الحلم الصهيوني.
ولذا كان ينشر منذ الخمسينيات مجلة هاعولام هزه (هذا العالم) التي تخصصت في توجيه النقد للسياسات الصهيونية. وكان أفنيرى يحذر الصهاينة من مصير ممالك الفرنجة التي لم يبق منها سوى بعض الخرائب.
وقد صدر له كتاب بعنوان إسرائيل بدون صهيونية ( 1968) عقد فيه مقارنة مستفيضة بين ممالك الفرنجة والدولة الصهيونية، فإسرائيل مثل ممالك الفرنجة محاصرة عسكريا لأنها تجاهلت الوجود الفلسطيني ورفضت الاعتراف بأن أرض الميعاد يقطنها العرب منذ مئات السنين.

ثم عاد أفنيري إلى الموضوع عام 1983، بعد الغزو الصهيوني للبنان، في مقال نشر في هاعولام هزه بعنوان "ماذا ستكون النهاية"، فأشار إلى أن ممالك الفرنجة احتلت رقعة من الأرض أوسع من تلك التي احتلتها الدولة الصهيونية، وأن الفرنجة كانوا قادرين على كل شيء إلا العيش في سلام، لأن الحلول الوسط والتعايش السلمي كانا غريبين على التكوين الأساسي للحركة.
وحينما كان جيل جديد يطالب بالسلام كانت مجهوداتهم تضيع سدى مع قدوم تيارات جديدة من المستوطنين، ما يعني أن ممالك الفرنجة لم تفقد قط طابعها الاستيطاني، وهذا هو بالضبط حال اسرائيل اليوم.

اسرائيل تمر حاليا" بمرحلة خطيرة من التدمير الذاتي، وهذا التدمير وصل لكل المجالات، بل ان هناك منافسة شديدة حول من يقدم الصورة الأكثر سوادا. في الواقع، ثمة زلزال داخل اسرائيل على كل المستويات: انقلاب في بنية التفكير الاسرائيلي العام، من شعور بتفوق وقدرة اسرائيل على تحقيق أهدافها متى أرادت وشاءت بواسطة قوتها العسكرية، الى سيادة قناعة وشعور عام بالعجز وعدم الثقة بعد الآن في هذه القدرة، سقوط نظرية الأمن والاستقرار، الجيش لم يعد يملك المعنويات، زيادة الانقسام السياسي، انقسام الأحزاب السياسية التاريخية، وازدياد الشعور العام بحال الفراغ على مستوى القيادة ...ألخ. اسرائيل باتت تفتقد الى قيادات قادرة على اخراجها من مأزقها، في وقت يزداد عدم الرضا عن سلوك الزعامات الاسرائيلية، الأمر الذي يؤدي الى خلق حالة سوداوية، كما أن التماسك الاجتماعي والتماسك السياسي ووحدة المجتمع تضعضعت، وقوة الجيش التي تشكل الأساس في كل ذلك أصيبت بعطب خطير. عمق الأزمة لا يكمن في آلية اتخاذ القرارات أثناء الحرب وبالتالي معرفة أسباب التقصير، بل هي كامنة أصلا في ان عناصر القوة الاسرائيلية أصيبت بأعطاب قاتلة، وأهم خلل فيها هو ان الجيش القوي الذي كان يحقق الانتصارات بات مهزوما"، وبالتالي، ستكون مهمة الحكومات الاسرائيلية القادمة في السنوات المقبلة، اعادة بناء أسطورتها العسكرية عن طريق عسكرة المجتمع والدولة.

حتى الآن أجّلت إسرائيل، أو بالأحرى تهرّبت، من الأسئلة المصيرية المطروحة عليها، منذ قيامها. وقد نجحت في ضبط تناقضاتها وأزماتها الداخلية والخارجية، والسيطرة وتوجيهها، بما يخدم مصالحها وأولوياتها، بفضل ديمقراطيتها (نسبة لمواطنيها اليهود) وإدارتها الحديثة، وبفضل الدعم الذي تحظى به على الصعيد الدولي، وخصوصا ضمان الولايات المتحدة لأمنها وتفوقها في المنطقة، والصمت العربي والواقع العربي الواهن والضعيف والراضخ.
لكن من يضمن بقاء هذه المعطيات كما هي لا سيما بعد انتصار المقاومة في لبنان؟ هذا ما يشكل هاجس اسرائيل الوجودي اليوم.

قد تنجح اسرائيل في عسكرة مجتمعها واعادة بناء قوة ردعها، لكن هل يمكن ان تنجح في اعادة ضخ مبادئ بروتوكولات حكمائها وايديولوجيتها التاريخية - التي قام على أساسها بنيان دولة اسرائيل الكبرى- في مجتمع فقد وحدته الفكرية والعقائدية وبات على شفير التشتت؟ سؤال في صميم الحلم اليهودي، الذي يواجه اليوم أكبر خطر وجودي.