في اليوم الذي سبق الأول من أيار الأخير، وبينما كانت السلطات التركية الصديقة تعلن منع التظاهر في عيد العمال، أعلن وزير الاقتصاد السوري أن سوريا قد أنجزت تحرير التجارة الخارجية، في خطوة جوهريّة نحو ما يسمّيه مهندس الاقتصاد السوري القادم، نائب رئيس مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري، اقتصاد السوق الاجتماعي، وفي محاولة لملاقاة شروط منظمة التجارة الدولية من باب أولى. وأوضح عامر لطفي (وزير الاقتصاد) في تصريح للصحافيين إن «هذه الخطوة تأتي في إطار خطوات الإصلاح الاقتصادي التي بدأتها سوريا منذ عام 2001، والتي شملت القطاعات المالية والمصرفية والسياحية والاستثمارية، والهادفة إلى بناء اقتصاد متين ومنفتح ومندمج في الاقتصاد العالمي»، مشيراً إلى «المناخ الاستثماري الجيّد الذي وفّرته الحكومة، والذي بدأت تظهر إسهاماته في عملية التنمية وتقوية الاقتصاد السوري».

وجدير بالذكر أن لطفي هو نفسه من دافع منذ أشهر عن البنك الدولي، موضحاً للشعب السوري أنه منظمة دولية ذات نفع، وأن الكثير من «الأفكار الخاطئة» تشيع حولها.

وبعد ما لف العالم في الأول من أيار من تظاهرات واشتباكات، قامت السلطات السورية باختيار الثالث من أيار (يوم الدوام الأوّل بعد عيد عمّال العالم) يوماً لإعلان رفع الدعم عن المازوت، ليصبح سعره خمساً وعشرين ليرة بعدما كان سبع ليرات (357%) مع حفظ سعر مدعوم (9 ليرات) يتم على أساسه توزيع ألف ليتر سنوياً لكل عائلة بموجب قسائم وزّعت مؤخراً، ويجري بيعها ــ القسائم ــ اليوم في السوق السوداء بعشرين ألف ليرة سوريّة للألف ليتر. في المقابل، وفي الصبيحة نفسها، رُفعت أجور المواصلات داخل المدن قرابة 80%، وصدر مرسوم جمهوري رفع رواتب الموظفين الحكوميين والمتقاعدين منهم بمقدار 25%.

بدأ سائقو الحافلات الصغيرة بدمشق محاولة خجولة لإضراب صباحي، إلا أنها لم تنجح أكثر من ساعتين، ربما لتأصّل الخوف في أنفس بعضهم، ولأن شرطة المرور في المدينة عملت على توزيع من لم يضربوا منهم على مختلف الخطوط تجاوزاً كي لا يظهر للإضراب كثير من قوة، بينما شعر كل من سار في دمشق أو ركب ما في شوارعها من سيارات وباصات أو زار مقاهيها بأن يوم الثالث من أيار 2008 كان يوماً مختلفاً، وبأنّ غضباً كان يعتمل في الصدور، وأنّ الخوف السوري التاريخي بدا للحظة هشّاً، وإن لم تدم اللحظة. كان التلفزيون الرسمي ومختلف الإذاعات المرافقة له يُطنب في أن الزيادة في الرواتب «مجزية»، ويتابع الموّال العتيق عن أن الوضع الاقتصادي بألف خير وأن النمو مرتفع المعدلات وأن هيئة مكافحة البطالة تنجح في خفض معدلات البطالة، وأن المؤسسات الخيرية المخملية وشبه الحكومية التي نشأت خلال الأعوام الأخيرة تقوم بإنقاذ الريف السوري، وأن الاستثمارات الخليجية بلغت حداً مرضياً في مجالي العقارات والسياحة (الظاهرة التي يستهجنها بعض «عملاء الغرب وحلفاء الإمبريالية» على أنها بيع لأفضل ما في تراب الوطن من أراضٍ وفرص استثمارية لمصلحة شركات قطرية أو سواها على حساب مصالح أهل الأرض أنفسهم وبالشراكة مع رؤوس أموال فاسدة محلية).

قبل الأول من أيار هذا بأسبوع، قامت السلطات القضائية السورية بتسليم معتقلي إعلان دمشق الاثني عشر قرارات الاتهام بحقهم. وقامت بذلك في أول أيام عطلة عيد الفصح بعدما مر على التاريخ الرسمي المسجل عليها حوالى عشرة أيام، ليتحتّم على المحامين الموكلين بالدفاع أن يناضلوا في سبيل حق الطعن بحد ذاته! والمجلس الوطني لإعلان دمشق هو اللقاء الذي جمع أغلب أطراف المعارضة السورية ومستقلين، والذي أثار حفيظة النظام السوري بدرجة محدودة، ثم فتح أبواب أقبية الفروع الأمنية والسجون فور استخدام بوش له في انتقاد النظام السوري، الذي يعجز دائماً عن تصديق أن من يخالفه الرأي يمكن أن لا يكون عميلاً أميركياً.

وللأهمية التاريخية، ورد في القرار الاتهامي الصادر عن قاضي الإحالة الأول بدمشق، وبعد الافتتاح «باسم الشعب العربي في سوريا» المقطع التالي:

«تتلخص وقائع القضية أنه بتاريخ 1/12/2007 حضر كل من المدعى عليهم فايز محمد سارة وجبر حسن الشوقي ووليد عيد البني وعلي صالح عبد الله وأكرم وجيه البني ومروان العش وفداء حسن أكرم الحوراني وياسر تيسير العيتي ومحمد أسعد حجي درويش وأحمد صالح الخضر وطلال صبحي أبو دان اجتماعاً سياسياً سرياً غير مرخص له في منزل المدعى عليه رياض سيف وأصدروا بياناً ختامياً تضمّن تهجّماً على نظام الحكم في القطر وتحريض جميع القوى والأفراد والشرائح للتحرك ضده، واعتبارهم أن النظام في سوريا هو مصدر للأخطار الخارجية التي تهدد البلاد من خلال تعامله مع منظمات مثل حركة حماس وحزب الله في لبنان وإيران واستبعاد دور أمريكا وإسرائيل من الأخطار الخارجية التي تهدد القطر، ودعوة مفتوحة للقوى والأفراد على أسس عرقية ودينية وسياسية واجتماعية وعشائرية لإحياء النزعات التقسيمية. كما تضمن البيان إيجاد حل للقضية الكردية وضمان حقوق الأشوريين واعتبارهم أن مهمة التغيير في سوريا مهمة إنقاذ لتوضيح الأخطار التي تتعرض لها سوريا. وجرى اختيار ما يسمى رئاسة المجلس وانتخاب سبعة عشر عضواً للأمانة، واعترف المدّعى عليهم بحضورهم الاجتماع في منزل المدّعى عليه رياض سيف رغم علمهم بعدم الحصول على ترخيص نظامي من الجهات المختصة»... ليخلص إلى اتهام المعتقلين وهم من هم، وتاريخ كل منهم وحاضره معروف وسهل التحقيق، بـ: «جنايتَيْ النيل من هيبة الدولة وإيقاظ النعرات العنصرية والمذهبية وإنشاء جمعية بقصد تغيير كيان الدولة والمعاقب عليها بالمواد /285-286-306/ ع»، إضافةً إلى «الظنّ على المدّعى عليهم جميعاً بجنحة الكتابة لإثارة النعرات المذهبية والعنصرية والحض على النزاع بين مختلف عناصر الأمّة المنصوص عنها والمعاقب عليها بالمادة 307 ومحاكمتهم من أجل ذلك أمام محكمة الجنايات بدمشق تلازماً وتوحيداً مع الجرم الأشد». ولاحظ المتابعون غياب واحدة من التهم المعتادة، وهي «إضعاف الشعور القومي» على غير ما جرت العادة.

وورد في نص الطعن الذي قدمه المحامون الموكلون بالدفاع عن المعتقلين، بعد تقديمٍ بلا شرعية حالة الطوارئ القائمة منذ 1963، وبعد الطعن في شرعية المحاكم الاستثنائية وفي شرعية اعتماد التقارير الأمنية أساساً لدعوى قضائية، أن المادة / 285/ نصت على «من قام في سوريا في زمن الحرب أو عند توقّع نشوبها بدعاوى ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال المؤقت». وقال نص الطعن «لو فرضنا جدلاً وجود الجرم ـــــ وهو ما ننكره ــــــ فإنّه غير معاقب عليه إلا في زمن الحرب. وهذه الحالة غير متوافرة في سوريا، وهذا ما استقر عليه اجتهاد محكمة النقض ـــــ الغرفة الجنائية ـــــ في تحديد مفهوم زمن الحرب». وأضاف إن المادة 306 عقوبات عام تنص على أن «كل جمعية أنشئت بقصد تغيير كيان الدولة الاقتصادي أو الاجتماعي أو أوضاع المجتمع الأساسية بإحدى الوسائل المذكورة في المادة /304/ تُحلّ ويُقضى على المنتمين إليها بالأشغال الشاقة المؤقتة». وتضمّن ردّ المحامين أن اللقاء الذي عُقد لم يكن إنشاءً لجمعية، وأنه كان لقاءً لطَيف واسع من الايديولوجيات والمشارب، وأنه هدَف حصراً للدعوة إلى التغيير الديموقراطي السلمي التدريجي (وكان إنجازاً أن تجتمع كل تلك القوى المختلفة على مبدأ واحد في الأساس!). وأوضح نص الطعن «هذا الجرم مرتبط بأفعال مادية منصوص عنها في المادة /304 / عقوبات عام. ولو رجعنا إلى هذه المادة لتبين لنا أنها تتحدث عن الأعمال الإرهابية وترتكب بوسائل مادية كالأدوات المتفجرة والأسلحة الحربية والمواد الملتهبة والمواد السامة والحارقة والمواد الوبائية أو الجرثومية».

حدث ذلك بعد كلّ ما سبقه، وكان آخره إضافة حكم جديد بثلاث سنوات فوق اثنتي عشرة سبقتها للدكتور كمال اللبواني على أساس شهادة مجرم قاتل وضع في الزنزانة نفسها بأن الدكتور اللبواني قال في داخل الزنزانة إن الفاسدين سيحاكمون يوماً!

قد يكون سخيفاً أن يُفاجأ المرء أو حتى أن يبالغ في التعاطف، حتى برغم تجنّد بعض اليساريين الطفوليين أو شيوخ القومية العربية المتحجرين منهم، لتقريظ الليبرالية الجديدة التي يمثلها رياض سيف وبعض الآخرين، في مازوشية هزلية تفترض أن كل من لا يبدأ حديثه بضرورة التصدي للإمبريالية أو بمديح هوغو شافيز، وإن كان كل مضمون حديثه معادياً للإمبريالية، وحتى إن تصدى لها في السطر الثالث من نصه، هو بالضرورة ليبرالي جديد، كأنما تنقصنا تهمة جديدة نتسابق في تراميها. وفي كل حال، مثل هذا كثير في بلدنا عبر العقود الأربعة الأخيرة.

لكن الجديد اليوم، هو أن النظام الحاكم يقوم مباشرة وبدون تورية بالتخلي عن ورقة التوت التي حفظها منذ عام 2001 إبان تقويضه لربيع دمشق القصير وتوضيحه أن عرضه الإصغاء للرأي الآخر لم يقصد به أن يقوم الآخر بالنقد أو التحليل وتقديم المقترحات والمطالب (ولم يقم النظام يوماً بتوضيح ما كان المقصود إذن!)، تلك الورقة التي عُدّت حينها تمثّلاً بالنموذج الصيني في «إصلاح» اقتصادي معزول عن الإصلاح السياسي (والقضائي والتعليمي وسواهما!)، عندها افترض النظام أن فقر الشعب وإحساسه المركّب بالنقص بعد زمن من العزلة الاقتصادية والسياسية أعقب زمناً من القمع الوحشي أوائل الثمانينيات، زمن انتظم الشعب السوري خلاله ساعات كل يوم في طوابير من أجل الخبز والأرز والسكر، وحُددت فيه استثمارات القطاع الخاص وقُيّد الاستيراد بيد حديدية بينما تهافتت مؤسسات القطاع العام بفسادها وهي تستوعب موظفين لا شغل لهم فتمنحهم رواتب ضئيلة وتحكمهم بنقابات تعيينات، وتهافت بنى المجتمع بطبقات محدثي النعمة وأغنياء الحزب، وصغار المرتزقة من المخبرين. كان ذاك الزمن نفسه الذي ساء لبنان أيضاً، وساء كثيراً من السوريين فيه كذلك. يومها، في 2001، مع الإصلاح الاقتصادي خطةً استراتيجية، افترض النظام أنه كسب الشعب السوري، وأن ما فات وما استمر من قمع لمظاهر السياسة في المجتمع كفيل بأن يقنع الشعب بالإصلاح الاقتصادي كأولوية على الأقل. وكان ذلك، وكان أن ارتفعت فعلاً معنويات الشعب لمدة.

الجديد في نزع ورقة التوت هو أن أياً من منظّري النظام أو من آلاته لن يستطيع أن يقنع الشعب السوري بأن ما يجري هو إصلاح! فالتحوّل الاقتصادي الحالي، غير الخاضع لأيّ رقابة تشريعية أو قانونية أو لأي مساءلة أو مراجعة أو تداول، هو تحويل باتجاه الرأسمالية الوحشية، وهو أعمق خطراً وارتباطاً بمصالح الإمبريالية العالمية من شد حبال التحكّم السياسي غير البريء بما في المنطقة من صراعات قذرة كانت أم شريفة.