الحالة الميليشيوية لها عدة وأدوات منها المال السياسي، التسلح، التدريب، الشعب الأمنية والتي تسمى أحيانا "انضباط"، بالاضافة الى توسيع دائرة التفرغ أي العمل السياسي والحزبي المأجور فيتحول المناضل والكادر الى موظف لقاء راتب وهذه الطبقة من العاطلين عن العمل تصبح أداة بيد السلطة الحزبية للتحكم بالقرار التنظيمي. وهذه الطبقة الهامشية الطفيلية ، أفرزتها أصلا الازمة الاقتصادية الاجتماعية. وهي مهيأة للانتهازية لأنها تبدل مواقفها السياسية وفق سلم الرواتب، لانها غير ملتزمة عضويا بقضية أو عقيدة أو وعي عقلاني أو مشروع سياسي وقد تعرض هؤلاء الشباب الى الفساد والانحراف عن الانتاج والمعرفة.

وهذه الحالة الميليشيوية تختلف نوعيا عن حالة المقاومة التي تتميز بالنضال والتعبئة الاستشهادية وردم الهوة بين القيادة والقاعدة. قادة المقاومة هم شهداؤها وقادة المقاومة هم القدوة في النضال والتضحية والتقشف.

في حالة المقاومة يكون السلاح مشدودا الى مقارعة العدو الاسرائيلي، أو يستخدم للثورة المسلحة ضد نظام تبعي استبدادي فاسد، أما في الحالة الميليشيوية ، فيستخدم السلاح ومشتقاته للقتنة والحرب الأهلية المجانية. والحقيقة ان الحالة الميليشوية تفرز حكما طبقتين : طبقة مستفيدة تدير آلة التنظيم وتتمتع بالوجاهة والمظاهر والنعم (بيت، سيارة،مال، حرس...) وطبقة المتفرغين، وهم من الحرس والمرافقين وقبضايات الشارع والمخبرين.

في الواقع، بعد ان اضطربت الظروف الامنية، وتعثر الحل السياسي ، بدأ التخوف من الفتن الأهلية والأحداث الأمنية المتنقلة واستمرار الانقسام العامودي الحاد بين المعارضة والموالاة والتحضير للأسوأ ، بدأت التنظيمات السياسية والأحزاب والقوى من الجبهتين المتنازعتين الاعتماد على المال السياسي الآتي من مصادر مختلفة سخية بفضل ارتفاع سعر البترول، وتفشت ظاهرة التدريب في لبنان وخارجه والاتجاه الى التسلح.

هذه الظاهرة أعادت لبنان الى اجواء الحرب الأهلية والتبشير بعودة الميليشيات وظهور اللباس الموحد وانتشار أسماء التنظيمات العسكرية في الأحياء والمناطق وتوسيع دائرة المتفرغين وانشاء أجهزة امنية علنية عبر شركات الحراسة أو ضمنية تلجأ اليها الأحزاب والقوى السياسية للرصد والمراقبة والحماية والاختراق، مما يبشر بعودة الروح العسكرية التي غابت الى حد ما عن الحياة السياسية خاصة بعد حل الميليشيات نتيجة اتفاق الطائف.

هذه المظاهر او الظواهر تؤكد عودة الميليشيات الى ساحة العمل السياسي حيث تشهد انكفاء القوى المسالمة أو هيئات المجتمع المدني والمثقفين وبروز "العسكر" على المسرح السياسي من جديد.

هذه المظاهر تؤدي أيضا الى انحسار القيادات السياسية والاعلامية والفكرية العاقلة في الأحزاب والقوى السياسية لصالح القيادات الميليشيوية ورجال الأمن والانضباط والتنظيم.

وهكذا تتحول الحياة السياسية والحزبية في لبنان من الحوار الديموقراطي والصراع الفكري والمناظرات الاعلامية والبرامج، الى هيمنة المنطق الميليشيوي داخل الاحزاب والقوى السياسية وفيما بينها. لذلك بدأت الصراعات والاحداث الامنية تتفشى ك"بروفا" لتهيئة الاجواء القتالية وصعود نجم قباضايات الأحياء وجنرالات الحرب، كما بدأت تظهر على مسرح الأحزاب القيادات الميليشيوية القابضة على المال السياسي والتدريب والتفريغ والتسليح وأجهزة الأمن والانضباط لتصبح هي صاحبة القرار الحزبي والسياسي لأن الزمن هو زمن المواجهة والحرب.

فكيف يتم انعكاس هذه الحالة الميليشيوية على بنية الاحزاب وسلطة القرار فيها؟

بدأت تظهر أحزاب ومنظمات هي من بقايا ميليشيات الحرب الأهلية وقد باشرت بعملها ليتلائم مع طبيعة المرحلة وهي مجرد أداة للنفوذ والارتزاق في زمن سباق التسلح واستدراج العروض والتمويل.

بشكل خاص سنستعرض تأثير النهج الميليشيوي على 3 نماذج هي الحريرية والعونية والحزب السوري القومي الاجتماعي، وانعكاسها على الخلافات التنظيمية الداخلية :

أ‌- الحريرية:

توزع تيار المستقبل بين اتجاهين:

1- حريرية الابن، تتجه الى القبض على الشارع ميليشيويا وذلك بخلاف حريرية الأب التي تميز نهجها بالخدمات والمساعدات، فكان مشروعها استغلال الطائفة كرافعة لمشروعها الاقتصادي السلطوي. بينما حريرية الابن – ربما اضطرت او تجاوبت مع الظروف الأمنية الملتهبة – عملت على عسكرة الطائفة عبر شركات امنية، وتدريبات عسكرية وتمويل ودعم ميليشيات الأحياء واعادة ترميم منظمات زمن الحرب الأهلية وتوظيف بقايا الأمن السابق في مشروعها فشاهدنا انتقال زعماء الأحياء ومفاتيح انتخابية ووجهاء بعض القرى والعائلات من نظام الأمن السوري والفتحاوي الى نظام الأمن الحريري الذي أصبح يتمتع بماكينة انتخابية / ميليشيوية وأجهزة أمنية ومتفرغين تحت أسماء متنوعة.

2- "السنيورية" نمت مع حريرية الابن بفضل الدعم الاميركي لها، وتستمد قوتها من شخصية السنيورة المعتمدة والموثوقة من الادارة الأميركية، والتي تتوزع النفوذ مع بيت الحريري مكتفية بالسلطة السياسية لكنها عاجزة عن التمدد الشعبي المحتكر للحريرية.

استنفرت حريرية الابن بقايا الحركة الوطنية اليسارية خاصة قيادات منظمة العمل الشيوعي والذين خرجوا من الحزب الشيوعي اللبناني ويسار فتح والناصريين وهم كادرات لهم خبرة عسكرية من زمن الحرب الأهلية وقدرة ديماغوجية في التعبئة، وعقدة ثأر من سورية من زمن خلافها مع فتح أبو عمار.

ويتم توفير المال والسلاح والتدريب والتعبئة من اجل عسكرة الطائفة السنية او على الأقل مناطقها الريفية المحرومة واحيائها الفقيرة المهمشة مما يشكل خطرا على أصول حريرية الأب.

ب- العونية:

التيار الوطني الحر، موزع بين اتجاهات مختلفة هي التالية:

1- الصهرين وهما مقربين من الجنرال ويطمحان الى وراثته، أحدهما في السياسة والآخر في الاعلام والأعمال. ويعتبران نفسيهما من "اهل البيت" وأحق من غيرهما بوراثة تركة الجنرال.

2- آل عون: يدعي هؤلاء بأنهم أحق بالقيادة لأنهم الأسرة الحاكمة ولهم حق بالنفوذ والسلطة. ويعملون على ابقاء التركة داخل العائلة وهم اولى بالمعروف.

3- قدامى العسكر: وهم من رفقاء السلاح مع الجنرال عون ويعتبرون أنفسهم أحق بالقيادة ، فهم من "الصحابة" وشركاء مسيرة النضال في بعبدا والمنفى وهم ضد منطق الوراثة العائلية ، لأنهم عندما كانوا يقاتلون الى جانب الجنرال، لم يشاركهم في ذلك أصهرته وأقرباؤه في المعارك والاضطهاد، وبالتالي لا يحق لهم بتركة لم يشاركوا في صناعتها.

4- القيادة الشابة الجديدة خاصة الذين خاضوا نضالات في لبنان أيام المواجهات مع السلطة.

رغم الخلافات القيادية في التيار الوطني الحر، فان موضوع الميليشيا لم يحسم بعد. البعض يرفض توجه التيار الى تأسيس جناح عسكري قد يحوله من حزب "الأوادم" الذي نشأ أصلا ضد ممارسة ميليشيات القوات والكتائب. بينما يطرح آخرون ضرورة انشاء قوة انضباط ذاتية لحماية بيوت وكادرات التيار لأن الاعتداءات التي تعرضوا لها قد تبعد جمهورا واسعا عنهم نتيجة الخوف وفقدان الثقة.

فريق ثالث يطرح ان الجيش هو الضامن للسلم الأهلي، ووجود ضباط متعاطفين مع التيار يكفي لحماية جمهور عون من أي اعتداء أو تعد، لكن هذه الحجة تصبح ضعيفة مع توسع الخلاف بين الميشالين الجنرالين عون وسليمان.

وفي كل الحالات المال السياسي قد يتسرب، وضرورة تأسيس جهاز انضباط بدأت تظهر. لكن هذه الحالة حتى الآن تبقى بعيدة عن الأضواء والتأثير وربما تلعب دورا فاعلا ومؤثرا في المستقبل مع تطور الأوضاع وتداعياتها.

هذه الحالة من الضياع، تجسدت في تأجيل مؤتمر التيار الوطني الحر من أيار الى اجل غير مسمى، لأن مرحلة التحول من تيار الى حزب لم تنضج بعد، واستحقاق المؤتمر قد يفجر الخلافات الداخلية، لذلك كان التأجيل أفضل الحلول.

واستحقاق "المؤتمر" هذا يذكر أيضا ب "القوات اللبنانية" التي ما زالت في مرحلة انتقالية ولم تتمكن من تجاوز المؤقت وانتاج حالة تنظيمية مستقرة، خاصة بعد عودة رجالات الحرب وصراع المحاور ومواقع النفوذ المالية والمخابراتية، كما انه سبق وواجه أحزاب أخرى وأثمر تمديدا للقيادة ذاتها، كما هي الحال في الحزب التقدمي الاشتراكي الذي تحول من حزب يساري الى كتلة طائفية اقطاعية، وبالتالي لا مشكلة بنيوية في داخله حيث تسود الرتابة والتبعية.

ج- الحزب القومي :

الحزب السوري القومي الاجتماعي شارك في الحرب الأهلية على طريقته وكان من مؤسسي المقاومة الوطنية في لبنان، وقدم قافلة متميزة من الاستشهاديين. لكن بعد اتفاق الطائف، سلم الحزب سلاحه أسوة بسائر الميليشيات وطلق المقاومة والعمليات الاستشهادية ، وشارك في السلطة اللبنانية على مستوى وزراء ونواب وبعض الوظائف الرسمية، وانكفأ عن الانتاج الفكري العقائدي الثقافي ا لاعلامي الذي تميز به خلال تاريخه الطويل، وهو الآن يكتفي باصدار مجلة شهرية شبه داخلية ومجلة فكرية فصلية وكتاب في ما ندر.

تردد أنطون سعادة مؤسس الحزب في تسمية القضية التي طرحها، بين حزب ونهضة وحركة ومدرسة لأنه أرادها أبعد من السياسة التقليدية ولم يشأ ان تكون فكرة معزولة عن النضال والجهاد والصراع. لكن الحالة التي وصل اليها الحزب اليوم أدت لدى القوميين والمواطنين الى التمييز بين العقيدة التي يعتبرونها واقعية ومعاصرة وبين المؤسسة التي يرونها مترهلة ومصابة بمرض الشيخوخة والعجز. وهكذا غرق الحزب فجأة باستحقاقات المرحلة وهو يتوظف في المعركة المقبلة لكن لا يستطيع ان يكون حزب مقاومة أسوة بحزب الله ولا يستطيع ان يكون حزب ميليشيا طائفية وحرب أهلية أسوة بالقوات اللبنانية وتيار المستقبل. هذا الانفصام الذي يعيشه الحزب القومي أفقده ذاتيته وخصوصيته.

ان الحزب القومي عبر تاريخه الطويل ربط النضال والقتال بالكفاح المسلح ضد العدو الاسرائيلي أو من اجل تغيير النظام والانقلاب عليه، فجسد ما يسميه "البطولة المؤيدة بصحة العقيدة". أما الحالة الميليشيوية، فهي غريبة عن طبيعته وخطر عليه.

يجب التمييز والتفريق بين سلاح المقاومة المشدود الى قضية وعقيدة تضبط استعماله وتصونه بممارسة أخلاقية مناقبية لا تحرفه عن أهدافه ، وبين سلاح الميليشيا الذي يؤدي الى قتنة وفوضى وفلتان أمني.

في مطلع أيار يعقد مؤتمر الحزب القومي من أجل دراسة مشروع وخطة غير موجودة وغير ناضجة ومن أجل انتخاب قيادة جديدة غالبا ما تفرض من خارج المؤسسات الحزبية. النقد الذاتي مستبعد، والتجديد غير ممكن، السكون هو سيد الموقف.

هذه الازدواجية بين حالة المقاومة وحالة الميليشيا انعكست على الحزب القومي أزمة بنيوية غلبت في ادارة الحزب القومي نهج الميليشيا على حساب سلطة العقيدة والمناقب ونهج المقاومة والنهضة .

هل يستطيع المؤتمر القومي ان يحسم الخيار بين هذين النهجين؟ وهل يستطيع المؤتمر تجديد شباب الحزب وعودة الروح الى قضيته وعقيدته وأخلاقيته؟ أسئلة صعبة ربما لن يتمكن مؤتمر الحزب من الاجابة عليها.

بين "المليشة" و المجتمع المدني

لا بد ان نشير الى ملاحظة أخيرة بشأن حزب الله في ظل اللغط القائم حول سلاحه وشرعية سلاحه، ما زال حزب الله حركة مقاومة بامتياز ويرفض ان يتحول الى ميليشيا رغم محاولات جره الى الفتنة لضرب شرعية سلاحه المقاوم. اشكالية العلاقة بين المقاومة المسلحة والمجتمع المدني وظاهرة الزهو واستثمارالنصر على العدو من اجل تحصين الوحدة الوطنية وعملية التغيير تتطلب دراسة اخرى.

ان تسريع الحل السياسي والتسوية السلمية هي المدخل لاعادة بناء الدولة وتفعيل المؤسسات الشرعية من أجل وضع حد للفلتان الأمني ومحاولات عسكرة السياسة ومليشت المجتمع حيث يتحول العاطلون عن العمل والمهمشون والطائفيون ورعايا الاقطاعيين الى مرتزقة في الميليشيات يدمرون ذاتهم وينتجون حروبا أهلية متواصلة ويدمرون البلد.

في الواقع، باتت الحالة الميليشوية تغزو المجتمع وتوتر الشارع في لبنان بسبب اجواء الحرب واستنفار الغرائز وغياب الحل السياسي، ما حول الحريرية من مشروع اقتصادي الى مشروع يحاول عسكرة الطائفة السنية، فيما العونية ما زالت تمانع ان تتحول من تيار مدني الى ميليشيا مسيحية، والحزب السوري القومي الاجتماعي يشهد مازقا داخليا حول خيار مصيري: بين حزب مقاومة ونهضة،او حزب ميليشيا "علمانية."

لكن اذا ما استمرت الحالة الميليشوية في التفشي، هناك خطورة ان تتحول الاحزاب والقوى السياسية الى ميليشيات متصارعة تجدد الحرب الأهلية بدل تجديد الاحزاب ودمقرطتها، كما ان هناك خطرعلى الحياة السياسية من "المليشة" على حساب نهج المقاومة والمجتمع المدني.