في وقائع التاريخ السياسي للعلاقات السورية الفرنسية الكثير مما يدل على طبيعة هذه العلاقة. ويمكن للقارئ إن يرى بوضوح أنها كانت في جميع مراحلها علاقات ( طبيعية) وطبيعية جدا بين دولتين وتهجين وشعبين، حتى مفصل ميسلون كان طبيعيا ولم يكن ممكنا عدم حدوثها، أو بالحري كان يمكن وسم هذه اللحظة من التاريخ بأنها ليست منطقية ولا طبيعية، والفرنسيون يفهمون ذلك تماما. واستذكار العرب والسوريين لسياسة الجنرال ديغول كلما انتابهم الحنين لفرنسا العادلة والقريبة واستظهارهم ميسلون كلما غضبوا من هذه الفرنسا أو ذاك ليس إلا جزء من الطبيعة الغرائزية الإنسانية، وهي لا علاقة لها إطلاقا بالتاريخ السياسي ولا بالمنطق السياسي.

ففرنسا هي فرنسا، كما هي، بمصالحها، برؤيتها الإستراتيجية والجيو-سياسية. لكن اللحظتين اللتين خرجت يهما فرنسا عن منطق ومسار التاريخ السياسي للدول والأمم سجلهما الرئيس السابق جاك شيراك، مرة عندما فتح ذراعيه ومرة عندما عقد حاجبيه في علاقته مع سوريا، مرة عندما اعتقد أن طريق العودة إلى بيروت تمر بدمشق ومرة عندما اعتبر أن أبواب واشنطن يفتحها العداء مع دمشق. وفي المرتين خسرت باريس موقعها الطبيعي. ففي المرة الأولى لم يكن قد وعى تماما أن دمشق وبيروت ليستا بوابتان لدخول انتداب سياسي جديد على المنطقة وأن طريق بيروت_دمشق سالكة على خطين وباتجاهين لا باتجاه واحد. وفي المرة الثانية خسرت فرنسا أيضا هويتها السياسية والثقافية لا لأنها استعدت دمشق بل لأن أبواب واشنطون مغلقة دائما على مصالحها.

الرئيس ساركوزي، صديق إسرائيل كما يقول، ومبهور بفكر ونهج المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، وقد سار بهذا التوجه الأيديولوجي والسياسي منذ ما قبل وصوله إلى السلطة، ووصل ربما بفضل خطأ سلفه أو لأسباب أخرى، وأحاط نفسه بأكثر الفرنسيين تعصبا لإسرائيل وللولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، موحيا أن ذلك اليوم من عام 1966 الذي أمر فيه الجنرال ديغول بإقفال مواقع ومعسكرات ومراكز حلف شمال الأطلسي في فرنسا ورحيل صبيانه من أراضيها سيمحوه ساركوزي من تاريخ فرنسا السياسي والحضاري الحديث ورفع الكثير من الشعارات التي توحي بأنه سيثبت خندق باريس الأمريكي_الإسرائيلي واعتبر أن ما يسمى السياسة العربية لفرنسا خطأ استراتيجي مما أوحى أولا أن هناك سياسة عربية لفرنسا وثانيا أنه سيلغي هذه السياسة العربية ويمارس ( القطيعة) معها.

لكن في واقع الأمر فإن المتابعين للمنطق السياسي الذي يتبعه الرئيس ساركوزي يرى أنه يعيد فرنسا إلى موقعها الطبيعي وأنه يطلب من العرب أن ينظروا إلى فرنسا في موقعها وليس في قلوبهم ولا في قبضة شيراك بوجه الشرطي الإسرائيلي في القدس العتيقة.

فبالنسبة للمحيطين به فإن صيحة شيراك وقبضته لم تغير شيئا بمسار علاقاته مع الاحتلال الصهيوني فشيراك لم يطلب من مندوبه في الاتحاد الأوروبي طلب عقوبات على الدولة العبرية لمخالفتها أبسط وأول شروط الاتفاقات مع الاتحاد الأوروبي أو القانون الدولي بوقف خروقها لحقوق الإنسان ووقف استغلالها للأراضي المحتلة. ولم يتوقف عن القول أن أمن إسرائيل أولا ولم يوقف الشبان الفرنسيين من الديانة اليهودية بتنفيذ خدمتهم العسكرية كمواطنين إسرائيليين. فشاليط مثل من آلاف الأمثلة. كما لم يمنع الشركات الفرنسية الكبرى وكل مدرائها العامين من أصدقائه وأنصاره الانتخابيين، من مساعدة إسرائيل في تنمية اقتصادها على حساب الأراضي المحتلة وتعزيز البنى التحتية للمستوطنات.

إذا لم يتغير في الواقع السياسي بالنسبة للقضية الرئيسية للعرب شيئا، ما تغير هو وضوح الصورة والرؤية وما يجب أن يتغير هو في المفردات والتعابير والأوصاف التي يطلقها العرب على الدول الكبرى وزعماءها وهذا لن يفسد للود قضية بل يجعل العلاقة أكثر اتزانا وموضوعية. وهذا ما يحصل اليوم بين باريس ودمشق.

فباريس لم تعد ترى في دمشق عدوا يجب اقتلاعه كرما لعين أحد، ولا صديقا نعتمد عليه في تنفيذ سياساتنا ومآربنا، بل شريكا في شبكة مصالح متبادلة تكثر معه نقاط الالتقاء أو تقل تكبر معه المصالح أو تضمر.

هذه المعادلة لا تبدو معادلة مؤلمة، إلا إذا كانت علاقات الدول والأمم علاقات غرامية وعاطفية نخشى صدماتها. فهذه المعادلة هي المطلوبة لتستوي أي علاقة بين دول سيدة تعرف ماذا تريد وما هي مصالحها ومصالح شعوبها وتوازن علاقاتها على هذا الأساس.

فالعلاقة بين باريس ودمشق تعود تدريجيا لتستقر على قواعد ثابتة يعرف كل طرف ويعترف بمصالح الآخر وخطوطه الحمر ويحترمها.

فبالنسبة لباريس_ساركوزي فإن مصالح فرنسا أولا ومصالح فرنسا يمكن أن تأخذ أكثر من شكل ولون وتتخللها أحيانا أفكار أيديولوجية يصعب على العقل السياسي فهمها لكن لا يصعب عليه تفهمها كربط قسم من هذه المصالح بعلاقته بتل أبيب أو بالولايات المتحدة وقسم آخر مرتبط بخياراته لمصالح اقتصادية وماليه في العالم العربي يتم توظيفها لنزاعات وصراعات عربية- عربية لكن في النهاية فإن للجغرافيا السياسية موقعها في القرار الاستراتيجي والتكتيكات الملحقة به وهو الأمر الذي لم تتوصل بعض القيادات العربية لإدراكه والتعامل بمقتضياته.

والرئيس ساركوزي كان يعرف أن هذا قدر العلاقات مع دمشق فسارع إلى إعادة فتح الحوار معها على أعلى المستويات وكان يعرف أيضا أن هذا الأمر سيغضب تل أبيب وواشنطن حبيبتي قلبه فزاوج بين المصالح الفعلية والضرورات الالفاظية، مراهنا على الغريزة السياسية في دمشق التي تعرف جيدا كيف تقرأ بين نقاط الفعل ونقاط القول عند الغربيين وتعرف كيف تقرأ بدقة (الأجندات) و(والروزنامات) وتدخلها وتترجمها في (تقويمها الخاص).

فاللحظة تبدو مناسبة للجانبين السوري والفرنسي للقاء يشكل استكمالا طبيعيا لعلاقات طبيعية يحتاجها الشرق كله وتحتاجها أوروبا أيضا.

فالواقعية السياسية ليست بالضرورة استسلاما كما أن الاستسلام ليس ضرورة للواقعية السياسية. لكن التقاط اللحظة التاريخية هو ما يميز بين قائد وحاكم أو رئيس ويبدو أن الرئيس ساركوزي يطمح للخروج من الرئاسة إلى القيادة في بلده وأوروبا عموما.