في توقيت متزامن ولا يخلو من الدلالة ، شهدت دمشق سلسلة من الاجتماعات والحوارات الفلسطينية السورية والفلسطينية - الفلسطينية خلال الأيام القليلة الفائتة ، فيما كانت القاهرة تعلن عن سحب مبادرتها للمصالحة الفلسطينية ، وتسارع إلى نفي توجيه الدعوات أو تحديد موعد لاستئناف جهود الوساطة بين الفصائل الفلسطينية.

دمشق البعيدة عن مرمى النار و"الاتهامات" المنطلقة من غزة وعلى حدودها ومعابرها ، تعطي الأولوية في حراكها الفلسطيني لـ"الوحدة الوطنية والمصالحة الداخلية بين الفلسطينيتين" ، أما مصر التي تطالها شظايا الصواريخ الإسرائيلية والاتهامات الفلسطينية بالشراكة في فرض الحصار الجائر على القطاع وأهله ، تعطي الأولوية لـ"التهدئة" وتجعل منها مبتدأ الدبلوماسية المصرية وخبرها ، حتى أنها باتت تنظر لمسألة الوحدة الوطنية الفلسطينية من ثقب بوابة معبر رفح ، وكيف يمكن التنسيق بين سلطة الأمر الواقع في القطاع ، والرئاسة الشرعية في رام الله في ادارته؟،.

من الواضح تماما أن دمشق قررت الدخول على خط الوساطة بين الفلسطينيين وبقوة ، لا من موقعها على رأس القمة العربية فحسب ، بل وفي سياق سياسة تسعى في إعادة رسم صورتها وتقديم نفسها كقوة استقرار وسلام في المنطقة ، وكلاعب إقليمي يضطلع بدور "إيجابي" ، بخلاف "الصورة النمطية" السائدة عنها ، والتي لعبت الولايات المتحدة وإسرائيل دورا رئيسا في تكريسها من ضمن إستراتيجية أشمل تستهدف "شيطنة" معارضي السياسة الأمريكية في المنطقة توطئة لنبذهم وعزلهم.

وفي هذا السياق ، لم يعد خافيا على أحد ، أن سوريا انتهجت مؤخرا سياسية مختلفة حيال العراق ، تقوم على وضع "المجاهدين" في سجن "صيدنايا" العسكري ، بدل تسهيل عبورهم إلى العراق ، وهي لعبت دورا ميسرا لاتفاق الدوحة وتشكيل الحكومة في لبنان ، وهي فتحت قناة تفاوض عريضة مع الإسرائيليين عبر الوسيط التركي ، وتدعو صباح مساء للانتقال إلى المفاوضات المباشرة بالرعاية الأمريكية - الأوروبية ، وهي تتقارب مع أوروبا والغرب بخطى حثيثة ومن بوابة الإليزيه ، ومن الواضح تماما أن الرئيس بشار الأسد يرغب في أن يحل على مائدة ساراكوزي ، ضيفا مدججا بالمنجزات والإسهامات الإيجابية الملموسة.

في مقابل هذا الأداء المتقدم والتصاعدي للدبلوماسية السورية ، تواصل الدبلوماسية المصرية أداءها المتراجع في عدد من قضايا المنطقة وملفاتها المتفجرة ، ويمكن القول أن "التهدئة" الهشة ، غير المستقرة وغير النهائية ، هي الإنجاز الوحيد الذي حققته هذه الدبلوماسية خلال السنوات الماضية ، فلا مصر نجحت في الدخول على خط الوساطة بين الفلسطينيين ، ولا هي تقدمت على خط المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية ، وقد حلت تركيا محلها في الوساطة بين دمشق وتل أبيب ، مثلما حلت الدوحة محلها في الملف اللبناني ، ولم تفلح مقاطعتها في إحباط قمة دمشق أو منع انعقادها ، كما أن حدائقها الخلفية في السودان وإريتريا ومنابع النيل ، باتت ساحة مفتوحة للاعبين كثر ، يضطلعون بأدوار أكبر من دوره: إسرائيل ، تركيا مرورا بإيران وعطفا على القوى الدولية القديمة منها والصاعدة حديثا على حد سواء.

وكان لافتا أن أصواتا فلسطينية عدة ، انطلقت من قطاع غزة إثر صفقة التبادل المبرمة بين حزب الله وإسرائيل بوساطة ألمانية ، تدعو لتغيير الوسيط المصري في محادثات تبادل الأسرى بين حماس وإسرائيل ، ويعزو أصحاب هذه الأصوات أسباب مطالباتهم هذه ، إلى جملة أسباب أهمها: ضعف قدرة الوسيط على التأثير ، واستسهاله الضغط على الجانب الفلسطيني عندما تتعقد المفاوضات ويستعصي الحل ويتعذر الضغط على الجانب الإسرائيلي.

الخلاصة أن سوريا في حلتها الدبلوماسية الجديدة ، تبدو مرشحة لمزاحمة مصر على القيام بدور الوسيط النشط بين فتح وحماس ، مستندة في ذلك إلى إنجاز كبير سبق لها وأن "طبخته" على نار حامية ، قبل أن تقطفه الرياض وتقدمه على هيئة "اتفاق مكة" ، ذاك الاتفاق الذي لم تضف الوساطة السعودية عليه ، حرفا واحدا خارج خانة الاسم الذي حمله.

قبل أشهر قليلة ، كانت الدبلوماسية السورية ترسف بأغلال الشلل والإعاقة ، بيد أنها اليوم تتحرك على أكثر من جهة وغير محور ، مفككة أطواق العزلة المضروبة حولها ، فيما الدبلوماسية المصرية ما زالت تعاني عوارض الشيخوخة وبطء حركتها وضعف مبادرتها ، وإذا ما ظل الحال على هذا المنوال ، وإن قدر لمسار اسطنبول التفاوضي أن يواصل تقدمه "البناء والإيجابي" فليس مستبعدا أن تنتقل الوساطة حول "التهدئة" بين حماس وإسرائيل إلى دمشق ، ومن يدري ، فقد تختطف العاصمة السورية دور القاهرة وشرم الشيخ معا ، فتستضيف الحلقة الثانية أو الثالثة من مسلسل "أنابوليس" وتنظم اجتماعا لـ"منتدى دافوس" وتستقبل مؤتمرات دولية لمحاربة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل ؟،).

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)