عندما احتل الفرنسيون سورية عام 1920 قاموا كما هو معروف بتقطيع أوصالها وأعطوا أربعة أجزاء منها لدولة لبنان التي أوجدوها. ترك الفرنسيون سورية بعد 26 سنة وادعى المشرعون السوريون أن التقسيم باطل ولاغٍ، وطلبوا من الرئيس شكري القوتلي أن يطلب رسمياً إعادة المناطق إلى سورية.

أجاب القوتلي بغضب: «عار عليكم أن تطلبوا ذلك. ما هو الفرق على أية حال بين سورية ولبنان؟ أليسا نفس الأمة؟ هذه الحدود التي أوجدها المحتل لا تعني لنا شيئاً ونحن لا نعترف بها. لن أطلب إعادة بوصة واحدة من اللبنانيين. وجود أراضٍ سورية مع لبنان هو نفسه وجود أراضٍ سورية مع سورية، وإذا أراد اللبنانيون المزيد من الأرض فما عليهم إلا أن يطلبوا وسوف يحصلون عليها».

تخبــرنا هذه القصة الكثير الكثيرعن احترام السوريين لجارتهم الصغيرة جداً والتـــي كانوا رغم ذلك على خلاف ظاهر معها منذ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحــريري في شباط (فبراير) 2005. تستطيع سوريــــة، وسوف تقبل بوجود لبنان مستقل ولكــن ليس لبنان الذي يستضيف نظاماً معادياً. ويوفر التاريخ السبب وراء هذا الإصرار.

بعد إثنتي عشرة سنة من تصريح القوتلي قررت سورية إلغاء نظامها البرلماني لصالح الاتحاد مع مصر عام 1958. ضمن تبريره ذكّر وزير الخارجية السوري صلاح الدين البيطار حكومته بأنه عندما كان يجري بحث الاستقلال عن الفرنسيين عام 1936، لم يثر الفريق التفاوضي السوري قضية الأجزاء التي جرى ضمها إلى لبنان «لأننا كنا نؤمن أنه في يوم من الأيام، وفي فترة معينة من التاريخ، سوف نتحد مرة أخرى مع كل لبنان. ما فائدة أربعة أجزاء إذا كان لبنان كله سوف يعود إلى الوطن الأم سورية؟». هذا الرأي، حسب ادعاء البيطار، برر اندماج سورية مع مصر بقيادة جمال عبد الناصر.

لم يكن لا صلاح الدين البيطار ولا شكري القوتلي يريدان احتلال لبنان، ولكنهما كانا يؤمنان بأن الحدود مع الجمهورية اللبنانية الحديثة كانت مصطنعة حيث أنها فُرضَت، أثناء حياتهم، على سكان سورية الكبرى. لم تجرِ استشارة السوريين حول استملاك تلك الأراضي عام 1920. كانت تلك الخطة وليدة فكر الجنرال الفرنسي السيء الذكر هنري غورو.

ما زال هناك سوريون يتذكرون عندما كان سكان بيروت يصفون أنفسهم بالسوريين. وحتى فترة متقدمة في القرن العشرين كان سكان طرابلس في شمال لبنان اليوم يشيرون إلى أنفسهم على أنهم سكان «طرابلس الشام». قبل عام 1918 كانت الشهادات الصادرة عن الجامعة الأميركية في بيروت تحمل عبارة «أعطيت في بيروت، سورية».

لم تطأ قدما الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي توفي عام 2000، لبنان باستثناء رحلة قصيرة إلى بلدة شتورا الحدودية الناعسة على الطريق الدولي بين سورية ولبنان للقاء الرئيس سليمان فرنجية في الأيام الأولى للحرب الأهلية اللبنانية. بدلاً من ذلك، استدعى الرئيس الأسد القادة اللبنانيين إلى دمشق، ليحفظ موقف سلطته الأسمى على لبنان إلى درجة ما، ولكن لأسباب أمنية بالدرجة الأولى.

وأدى ذلك بكثير من اللبنانيين لأن يتذمروا قائلين «لا يزورنا رئيس سورية، الذي يملك قوات عسكرية في لبنان بالمرة، لأنه لا يعترف بسيادة لبنان». يفسر ذلك أيضاً سبب وجود اهتمام إعلامي واسع بزيارة الرئيس بشار الأسد إلى بيروت في الثالث من آذار (مارس) 2002. كانت تلك الزيارة الأولى من نوعها من قبل زعيم سوري خلال حوالى 30 سنة.

وقبل أن يأتي البعثيون إلى السلطة بوقت طويل كان النقاش في سورية دائماً هو أنه رغم قبولنا بلبنان مستقل، فإننا لن نتحمل أو نقبل بنظام معادٍ لسورية في بيروت. الأمر ببساطة أنها قريبة جداً وخطرة جداً ومتداخلة جداً مع الشؤون السورية. واقع الأمر أن كل إدارة سورية منذ إنشاء الجمهورية عام 1932 اعتبرت لبنان في أعماقها، ولو بصمت، جزءاً تاريخياً من سورية.

وإذا ألقينا نظرة أعمق على العلاقات السورية اللبنانية فسنرى أنه عندما أصبح بشارة الخوري رئيس لبنان عام 1943 كان يتمتع بكامل دعم الحكومة الوطنية في دمشق. وقد بلغت وثاقة العلاقة بين إدارتي الخوري والقوتلي أنه عندما أقصى ضابط عسكري القوتلي عام 1949 رفض لبنان الاعتراف به. نتيجة لذلك بدأ حسني الزعيم، سيد سورية الجديد، بقلب فكرة «احتلال لبنان وإعادته إلى مكانه الصحيح في سورية». بل تحدث عن تمويل وتدريب مجموعة شبه عسكرية لغزو لبنان وضمه، الأمر الذي أدى بالشعب السوري لأن يجبره في نهاية المطاف على الاستقالة عام 1952. كذلك أجبر السوريون خليفته كميل شمعون على الاستقالة في أواخر خمسينات القرن الماضي بأن قاموا هذه المرة بتسليح اللبنانيين وتوفير الأموال والمعونة اللوجستية لهم للإطاحة بما أسمته دمشق حكومة معادية لسورية وللعرب في بيروت.

ما يفشل الغرب بفهمه هو أنه من وجهة النظر السورية لم يكن عمل ذلك في لبنان مخجلاً أو سمجاً على الإطلاق. من وجهة نظرهم كان الدخلاء يتدخلون بأمور سورية.

* محلل سياسي ومؤلف كتاب «الفولاذ والحرير: رجال ونساء شكلوا سورية 1900 – 2000» وهو كذلك رئيس تحرير مجلة Forward في سورية ويدرّس في كلية العلاقات الدولية بجامعة القلمون. يُنشر هذا المقال بالتعاون مع خدمة Common Ground الإخبارية.

مصادر
الحياة (المملكة المتحدة)