ترى من له أن يخبرنا بثمة مختلف بين ما يرمز لهما اسمان من نوع تلك الأسماء التي تختصر شعباً وتنوب عن أمة هي اليوم لم تجد في سواهما من تنوّبه عن وجدانها...

ما المختلف بين هذين اللذين كان من خبرهما أنهما صفعا لا انسانية عالم بقضه وقضيضه، انقسم حيال ما يرمزان له ما بين المجرم والمتواطيء والمنافق واللامبالي...

ما المختلف بين الشهيدين دلال المغربي وحسام دويات؟!

لندع ثلاثين عاماً حفلت بأثقالها وانكساراتها... وضجّت ببطولاتها و إخفاقاتها... وأرهقتها تقلباتها...ثلاثون عاماً فرقت سنونها زمنياً بين ترجّل ورحيل البطلين المختصرين في اسمها ما يختزنه وجدان شعبيهما وأمتهما... و لننسى الفارق ما بين القارب والجرّافة... بين القادم من البحر والآتي من الجبل، الساحل المغتصب والعاصمة المستباحة... بين شتات المنافي وأسرى الداخل ... لنجد المختلف أنه ما كان ولن يكون سوى ما أضيف للمنازلة المستمرة بين العناد الفلسطيني الشامخ والفجور الإستعماري المتوحش... إضافة لا يمكننا أن نخلع عليها من صفة تستحقها إلا راهن الانحدار العربي، وقديماً وصفوه بالزمن العربي الرديء... الزمن الذي يجد العناد الفلسطيني إياه نفسه يلوب فيه معانداً مكابراً متحدياً، أوكل ماله علاقة بهذه المضامين، بين مطرقة الفجور الإستعماري إياه وسندان غصن الزيتون العاجز المتهافت المنكسر...

* * *

ما الفرق بين البطلين الشهيدين دلال المغربي وحسام دويات، وبينهما جرت سيول من الأبطال الشهداء تدفقت قوافلها باتجاه فلسطين وفيها وترجلت على دربها... وما الجامع بينهما؟!

قبل ثلاثين عاماً خلت عادت مبحرة إلى الوطن وليدة الشتات دلال ورفاقها العشرة تجدف بقاربها باتجاه ساحله، ليلتقوه عشرتهم و ليتعرفوا عليه لأول مرّة... لترسوا معهم على مقربة من يافا... ومن مسقط رأس والديها... تجولت الفدائية ومن قادتهم على ساحلها بعنفوان صاحب الحق... جالت ما يعادل زمناً هو معركة ثلاثين ساعة مع غاصبيه المحتلين... يومها لم يترجل العناد الفلسطيني إلا بعد أن هزّ صلف الفجور الاستعماري، وافهمه أنه لايموت حق وراءه مطالب...

... بعد ثلاثين عاماً انقضت، الفتى حسام ذو التسعة والعشرين عاماً، والد الطفلين، ابن صور باهر، يمتطي جرّافة أمريكية من ذات الصنف العتيّ الضخم الذي يعرف الفلسطينيون بلواه جيداً... كتربلر... هذه التي تُدرج عادةً في قوائم المساعدات الأمريكية لعملية تجريف و تهويد فلسطين... جرافة من تلك الاحتلالية، الترانسفيرية، التي تخصصت في هدم منازل الفلسطينيين، وبناء الأسوار التهويدية العازلة حول معتقلاتهم الكبيرة... وامتدت مآثرها كونياً منذ أيام مخيم جنين إياها إلى العراق وقبله أفغانستان... من تلك التي سحقت عظام الانسانة الأمريكية راشيل في مخيم رفح... امتطاها الحسام وجال بها مغيراً وجهتها... حوّلها سلاحاً مقاوماً فتاكاً ضد الفجور الإستعماري يصول في شارع يافا في القدس الفلسطينية المحتلة... هنا، بعد ثلاثين عاماً، تتكرر يافا مرتين، ويتكرر معها البطلان... أو قل الأبطال... ويجمع العناد المقدّس على ذات الوطن الجريح الواحد، وفي مواجهة العدو الواحد... أو قل الأعداء ... شتات المنافي وأسرى الداخل في الوطن الأسير...

* * *

قبل ثلاثين عاماً نضالية، في الحادي عشر من آذار / مارس عام 1967، قادت دلال المغربي ابنة العشرين ربيعاً مجموعة دير ياسين الفدائية، عائدة إلى الوطن الذي ولدت بعيدة عنه. كان هذا في عملية القائد الشهيد كمال عدوان البطولية، التي عرفت فيما عرفت بعملية "السافوي" نسبة للمكان الذي هبطت فيه في الساحل الفلسطيني على مشارف تل أبيب، ضمخت بدمائها الزكية العطرة تراب الوطن، و استقرجدثها وأجداث من قادتهم فيه لمدة ثلاثين حولاً، في مقبرة أرقام هم ينبشونها راهناً ليعيدوا دلالاً ورفاقها إلى المنافي... يومها قلّب الجنرال باراك السفاح الشهير ووزير الحرب راهناً بنفسه أمام الكاميرات جسدها الطاهر المطرز بالرصاص ليطمئن...

كنت قد رأيتها صدفة ولم أعرفها قبل استشهادها بأيام... ربما أسبوع أو أكثر قليلاً... عندما كنت أسير في شارع أبو شاكر البيروتي الشهير وحين حيّتني فتاة يبدو أنها كانت تعرفني وسألتني عن شقيقي عبد القادر... الذي استشهد هو أيضاً فيما بعد قبل سقوط تل الزعتر بيومين... لم أكن أعرفها، ولهذا لم ألحظ إلا صبية سمراء وسيمةً رقيقة قصيرة القامة نسبياً، ترتدي بزة عسكرية وتتكيء على خسرها الأيمن حقيبة كتب منتفخة... لم أعرف حينها فيها إلا فتاةً في ربيع العمر تسأل عن رفيق سلاح أو فتى في مثل عمرها... أجبتها في عجالة ولا اكتراث من لا يعرف السائلة ومضيت ومضت في طريقها...بعد أيام عرفتني دلال ومعي العالم أجمع عليها عبر بوستر الشهيدة البطلة الذي تشرفت به جدران شوارع الفاكهاني وساحات بيروت... من يومها لا زلت أستعيد تلك الدهشة، أو تعاودني، ولم يفارقني ذاك الحرج والأسف لقلة معرفتي بحقيقة سائلتي حتى اليوم.

... واليوم حسام دويات يلتقيها... يلاقي بجرافته قاربها جامعاً وإياها بين وجهتي أسرى الوطن ومعذبي الشتات... مع فارق واحد لا غير، هو المختلف ما بين القارب الفدائي و جرافة التهويد التي دجنها لا أكثر... بين الفدائية، والاستشهادي العامل البسيط الذي لا هوية تنظيمية له سوى الشعب الفلسطيني... ابنة الثورة و ابن الشعب، اللذين كلاهما فلسطين... وجامع واحد لا غير، هو انتمائهما إلى المقاومين المبتكرين وسائلهما المفاجأة المتجددة... تكلم هي صناعة يحتكرها الشعب العربي الفلسطيني!

* * *

كما لم تأبه دلال ورفاقها لنوعية الاستقبال التي تعرفها سلفاً من قبل نابشي قبور الأرقام من أعدائها عندما تلتقيهم على ساحل الوطن، واستعدت له، لم يأبه حسام وجرافته بعد ثلاثين عاماً، وهو الذي سئم النفاق الدولي وتهافت الإنحدار العربي، والذي لم يعنيه إحصاء عدد زيارات كونداليسا رايس السلمية جداً الخمسة عشر للمنطقة... لم يأبه يما يسمونها التهدئة... ولم يأبه بإدانة متوقعة من قبل كبير مفاوضي السلطة لغضبة جرافته... لم يضع في حسابه تعزية بوش لأولمرت، ولا هدم ذات الجرافة الاحتلالية فيما بعد لمنزل أسرته، ولا لاء إزالة الحقد التوراتي المعتق لخيمة العزاء برحيله التي أقامها ذووه... كان بطريقته وحده يرد على اللقاء الثلاثي بين باراك والطالباني وأبو مازن في بلاد الإغريق...

* * *

في صفقة الأسرى المفخرة بين حزب الله المقاوم والعدو المكره المرغم، تعود دلال ورفاقها إلى الشتات مرة أخرى، مغادرة مقابر الأرقام إلى حيث انطلقت بقاربها الفدائي قبل ثلاثين عاماً... مرة أخرى إلى مثواها ما بعد الأخير، ويستقر حسام نهائياً، ورغم أنفهم، في دفئ تراب الوطن... لم تأبه دلال بأقفال المعابر ولم ينتظر حسام فتحها، كأنما هما القائلين للجميع:

إذا لم تصلكم قوارب الفدائيين، تأتيكم صواريخهم، وإن توقفت هذه فهناك الجرافات وجديدنا بعدها... وإن هدأت أو هدأوها في غزة حتام تلتهب أو سيل