لاشك أن الدلائل القصوى التي تشير إلى المعايير الاجتماعية الأصيلة والدخيلة لا تحددها إشارات الاستجابة لنوع المؤثر الذهني أو الممتع( حتى وإن كان ذهنيا )على الشرائح الاجتماعية المتناهية في قدرتها على الاستقبال والممانعة في ذات الوقت وذلك المثقف المشرقي قد يكون محقا في هوسه الإيديولوجي ومحاباته للمعيار الأصيل بضرب كل دخيل بعصا الوصاية الغليظة إذا ما اعتقدنا تجاوزا أن الايدولوجيا لم تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد 0

وأول ما يمكن أن يروج له مثقفنا في هذا المعرض ان كل ما يحيط بنا الآن يدخل في المخطط العولمي و الذي اكتسب عبر سمسرة التثاقف والقوة المتزايدة للاستهلاك قدرة مخدرة وقادرة على النفاذ داخل البناء الاجتماعي كما تنفذ دلة الحبر في ماعون الورق ناهيك عن المناخ اللائق الذي هيئه ذوبان الايدولوجيا واليأس الشعبي الواسع من الحياد الذي تبدو عليه السلطات الآن والوقفة الحقيقة لا يجب ان تكون أمام التجربة وإنما بفك رموز اللعبة الرأسمالية التي أصبحت تختبئ وراء كل تجربة ولعل الطبول التي دقت لمواجهة الخطر الداهم المتربص بثقافتنا!!؟ وفي أكثر من محفل (مدني – ديني) قد جرجرت هذه المحافل إلى محفلها الواسع الذي أبعد بعيدا بالسياسة الكلاسيكية وأخضع كل ما يحيط به لسياسة واحدة هي سياسة العرض والطلب لذلك لاغرابة في أن نسمع فتاوى في المستقبل تحرم شراء الاّيس كريم وارتداء جينزات (lois ) هذه المؤسسات المسؤولة عن أمننا الفكري والعقائدي ستتخلى عن هيئتها طمعا بالاندماج والتماهي مع هيولى الرأسمالية الآخذة بالأتساع وابتلاع كل شيء وما تقرأه الآن ليس تنبؤا وإنما سياق تاريخي لابد وأن يمر بنا .

لقد سبقتنا سلاحف الإتحاد الأوربي وتركيا منها في فهم عصر الاستهلاك والقدرة على تلبية حاجات ناسها من الدراما بربط نفسها رئسا بسوق الإنتاج الذي لا يطلب من فنانيه أكثر من سلسة درامية طويلة قوامها التشويق والمتعة ، والاستجابة التي أبدتها شعوبنا تجاه هذه الكلفة الفنية المتواضعة لدليل قاطع على نفاد صبرها من دراما الإدعاء والوعظ أو ما يسمى بالبديل الثقافي أي حشر ما يمكن حشره في المسلسل من قيم وطنية ومحاضرات ثقافية وأخلاقية بحجة أن التلفزيون هو الأكثر وصولا الى الناس وبأن الثقافة (ولا أعرف ما يقصدون بهذه الكلمة) مطلب اجتماعي رغم تأكيد هؤلاء الأرباب في أكثر من مناسبة أن الدراما التلفزيونية فن استهلاكي وتراهم في كل تجربة يفعلون عكس ذلك حتى استعصى علينا إدراج واعتماد تسمية بينة للدراما خاصتنا ، المثقف العصامي ينادي بالحفاظ على التراث والقيم عبر المسلسل والفنان لايمل من تقليل شأن الدراما التلفزيونية على اعتبار أنها فن استهلاكي 0000 إذا 000 مالحقيقة ؟؟

الحقيقة أن الإستراتيجية التي تقود إنتاج الدراما التلفزيونية محدودة و آنية في بلداننا ولم تتجرأ بعد لدخول عالم الاستثمار التلفزيوني ولازال وجودها موسمي وحذر الى حد بعيد ولعل السبب يعود إلى أن أصحاب شركات الإنتاج معظمهم من الفنانين ولا يملكون حس المغامرة لدخول هذا العالم تيمنا بنماذج من التجار والتي شارفت على ابتلاع هذا النوع من الاستثمار وخلق جهاز رقابي خاص بها يقوم على مبدأ التشغيل لا الإنتاج وبما يتوافق مع اعتباراتها الخاصة وبشكل لا يبعدها عن دائرة الربح لذلك تبدو عملية النتاج الدرامي محفوفة بالضمانات والوصفات المجربة والتي لاتزخر إلا بالتكرار والنمطية فيما يخص جانب الطرح والموضوع ولا عجب حينها أن تتزاحم ثلاث او أربع أعمال تتحدث عن البيئة الشامية في وقت عرض واحد وأن يكون ممثل بطلا في عدة أعمال تحمل أطروحات ظليلة الفارق لذات الفترة الزمنية (تاريخية فانتازية) .

وفي معرض الحديث عن إيجاد وسائل بديلة للتثقيف في العالم العربي عوضا عن الوسائل الكلاسيكية ( كتاب، مسرح ، سينما ) باعتبارها فنون أصيلة ولايمكن استنباتها أو تجذيرها في أرض غير مهيئة لاحتضانها أرض تحتاج الى حرث وقلب وتنفس والى اجتثاث كل مايخنقها ويكمدها من أعشاب ضارة تضر ولاتنفع ، سنجد أن الدراما خاصتنا قد وقعت في مغالطة عقيمة عندما اعتبرت أن التلفزيون يمكن أن يكون بديلا للتثقيف أو الارتقاء بالذائقة ، أما عن التثقيف فهو شأن ذاتي يتسم بالأصالة ولايمكن تحقيقه بالإستلاب ، وعبر تكاثر هذه الذوات المستقلة والمتمايزة عن بعضها تندمج الثقافة بالمعنى (المعرفي ) في تركيبة المجتمع وتقوم بتشكيل ملامحه

وأما فيما يخص الذائقة فهي تعبير يعكس القدرة على الاختيار وهذه القدرة مستندة في شكلها ومضمونها على مرجعية ثقافية وليس من سبيل الى تحقيقها إن لم تتكئ على مرجعية ثقافية .

اننا ندرك الان ان مايروج له المنتجون والفنانون المنتجون في تضييقهم لمعنى الثقافة ومحاولة جذب انتباهنا الى انهم هم الحل في ارتقاء ذائقتنا الآيلة الى التردي ليس إلا تنظيرا أجوف بلا معنى الغاية منه التجميل واعطاء بعد أخلاقي للمنتج الدرامي المراد منا استهلاكه .

إذا كان التلفزيون قبل وقت قريب صورة حكومية ومنبرا سلطويا فقد أفلت الآن من القبضة الايدولوجية وأصبح بإمكان المواطن ( المستهلك) الإمساك بزمام جهاز التحكم يعارض، يتجاهل، يشارك, يصّوت, وبالمحصلة يستهلك

مصادر
سورية الغد (دمشق)