هناك ما هو مفقود في الصراع الحالي، فعدد الشهداء الذي أثبت تاريخيا أنه مؤلم لكنه لن يبدل المعادلة، وفي نفس الوقت سيبقى مادة للاستنكار الأساسية أو عنوانا للتعبئة على المستوى الاجتماعي، لكن وراء غزة نوع من الفراغ السياسي رغم الدعم الشعبي، حيث لا يمكن إهمال جغرافيتها ومجاورتها لـ"مناطق الاعتدال"، وهي على ما يبدو نقطة الارتكاز في السياسة القادمة ضمن عملية الصراع بين "المحاور" التي حملت عناوين مختلفة، لكننا لا نستطيع إنكارها، فالصراع ليس على الأدوار بل على "هوية المستقبل" وهو ما يجعل "إسرائيل" متحمسة أكثر من أي وقت مضى للعب دور "الردع" و "التهذيب" و "المعاقبة" حتى لا تتحول المعادلة في الشرق الأوسط خارج الإطار المرسوم له.

وإذا كان الحديث عن الدور المصري أو السعودي يكثر في التحليلات أو الكلمات التي تظهر أثناء الاعتصامات، فالواضح أيضا أن هناك تمهيد سياسي لكسر مساحة الصراع في غزة، وهو ما بدأت به السعودية في "مؤتمر حوار الأديان" الذي كان نوعا من اللقاء السياسي لتثبيت "شراكة" معنوية أكثر منها فعلية مع "إسرائيل"، وهي شراكة تتحسب للمستقبل ولإمكانية "ميزان القوى" بعيدا عما هو متوقع، ويمكن التركيز هنا على أربع نقاط أساسية:

الأولى: هي تبدل ممكنات القوة في الشرق الأوسط، فمن الناحية الكلاسيكية ماتزال إسرائيل أكبر قوة عسكرية وتملك ذراعا طويلة، وقادرة على التهديد والضرب، وهو شأن حقق لها دائما نصرا عسكريا، لكن الحرب بالنسبة لها كانت تمديد بقاء دون أن تعني "استمرارا للسياسة بوسائل أخرى"، فهناك قط سياسي مقابل التفوق العسكري استمر حتى بعد حي تشرين عندما بدأت "خطوات السلام"، التي سجلت تراجعا على مستوى الاهتمام بالصراع لصالح مسائل أخرى، وفي المقابل فإن "التسوية" نقل الحرب إلى الداخل الإسرائيلي، فإسرائيل فقدت "معنى القوة" منذ أن بدأت تقاتل مجتمعات بدلا من جيوش نظامية.

الثانية: إعادة تكريس الصراع من جديد على مسألة الهوية، فالتسوية التي كانت تحوى مفهوم "فض النزاع" ثم الاتفاق على مسألة الحقوق، ابتعدت اليوم أكثر عن الثقافة الاجتماعية التي شعرت بتهديد حقيقي للهوية والوجود، فتجربة الصراع ربما لم تخلق مفاهيم جديدة تجاه الاحتلال، لكنها ثبتت "التناقض" بين التسوية و "السلام".

الثالثة: الافتراق السياسي الحاد في مفهوم الصراع، فالضغوط التي تمارس عربيا على "الأطراف غير المعتدلة" خلقت بدائل كثيرة في التعامل داخل الصف العربي وحتى على المستوى الدولي، فالحديث عن أن أطراف المقاومة غير معترف بها ومدانة دوليا لم يعد يعني الكثير، وربما للتذكير فإن المؤتمر الأفريقي الذي كان يرأسه نيلسون منديلا لم يشطب من قائمة الإرهاب الأمريكية إلا مؤخرا.

الرابعة: إن رهان القوة الإسرائيلي مؤلم جدا، وفي نفس الوقت غير قادر على إحداث تحولات في الثقافة الاجتماعية، فهو يحاول الرهان على الانهيارات العربية أكثر من قدرته على خلق واقع يؤمن لإسرائيل طول البقاء.

المعادلة اليوم مؤلمة لأبعد الحدود، لأن إثباتنا لـ"فشل" الرهان الإسرائيلي ندفعه برفع عدد الشهداء من "المدنيين"، فـ"إسرائيل" لا تمارس العنف عليهم عبثا بل لأنهم وحدهم من يقاوم التحول باتجاهها.