لا اعتقد ان "المشكلة في نيويورك أو في أي عاصمة أوروبية شهدت تظاهرات من أجل غزة، فما حدث خلال الأسابيع الماضية أوضح أننا مكشوفون استراتيجيا رغم كل "العنفوان" الاجتماعي، ورغم الصورة التي نريد أن نبقها لغزة من أجل الأجيال القادمة، فالحروب التي تختبر التفكير السياسي أوضحت أننا لا نملك الكثير، وأن التعبئة هي النموذج الوحيد القادرين على ممارسته وعلى الأخص رسميا.

ما ينقص الحرب هو التفكير بمعادلة الصراع المستمرة منذ عام 1948، فليس المهم النظر إلى النتائج العسكرية في هذه اللحظة، لأن المجتمع الفلسطيني بما قدمه خلال الأسابيع القليلة يجعلنا نتجاوز هذا الموضوع العسكري الذي انتهى عمليا منذ اللحظة الأولى للضربات الجوية، ومعادلة الصراعات تكرست أكثر من أي وقت مضى، بينما مارس النظام السياسي العربي أطول سيناريو لاستيعاب "هذه العودة"، ومازال يمارسها لرسم نتائج سياسية تتناسب مع طبيعة "الموت" الذي يريده للفكر والثقافة الاجتماعية.

ربما توقع خالد مشعل "انتفاضة ثالثة" وهو أمر لا تتحمله لا السلطة الفلسطينية ولا حتى الكثير من الأنظمة العربية، لأنه يحول "هشيم" مشاريعها السياسية إلى شواهد قبور للتفكير السياسي الذي مارسته على امتداد نصف قرن، لكن في المقابل فإن الأفق الاستراتيجي لهذا الصراع لا يبدو مقفلا رغم كل مساحات الدم المزروعة حاليا، على الأخص عندما نحاول النظر إلى نوعية الحروب التي تخوضها "دولة العدو"، لأنها في النهاية:

 دولة غير هادئة، فالحروب بالنسبة لها ليست موضوعا أمنيا كلاسيكيا كما تحاول أن توحي إعلاميا على الأقل، إنما هي آلية لتغيير الجغرافية – السياسية ضمن محيطها العام، فمعادلة التوازن العسكري "مكسورة" سواء على صعيد "شرعيتها الدولية" أو حتى قدرتها النووية، فـ"الأمن الإسرائيلي" يدور ضمن "المقابلة الاجتماعية" التي تحاول النفاذ إلى ما هو اكثر من "استعادة الثقة" و "التسوية" وحتى "إجراءات السلام"، فالتفكير يدور دائما حول "تشتيت الصراع وكسب الوقت عبر هذه الآلية لخلق "ثقافة" اجتماعية غير قادرة على الدخول في أي صراع جديد.

 تواجه دولة العدو معادلتين: الأولى سياسية قادرة على استيعابها، لأنها هشة ومتمسكة بصرامة عقلية ببعض "المفاهيم" المستحدثة او القديمة، فالسياسة التي يتم الحديث عنها بـ"واقعية" شديدة أصبحت بفعل التراكم منذ عام 1948 تملك ملامح ثابتة سواء قامت بالتسوية أو رفضتها، فهي ترفض المناورة وتحمل معها عبء تراثها، كما أنها لا تستطيع المغامرة أو حتى التعامل مع الأوراق المستجدة كما يحدث اليوم في غزة، حيث تضيع هذه السياسية جملة التحركات العالمية لعدم الإخلال بـ"قانون" بقائها. أما المعادلة الثانية فهي "اجتماعية" وهي رغم صلابتها لكنها متصلبة في مواقع لا تملك هامشا من التحرك، فهي ليست محشورة فقط ضمن "المعادلة السياسية" بل أيضا في ذاتيتها وعدم رغبتها في قلب المفاهيم أو حتى استخدام إمكانياتها.

حرب غزة لا توحي فقط بنوعية "العجز" الرسمي، بل أيضا بـ"مخلفات" الصراع التي استطاعت بالفعل خلق "معسكرات" اجتماعية قادرة على الانسلاخ عن الصراع رغم انغماسها به اجتماعيا، فما يتم الحديث عنه من "شارع عربي" هو منفعل بالحدث دون ان تنعكس حركته إلى عمق تفكيره الاجتماعي، أو قدرته على خلق بدائل لـ"المعادلة السياسية" الهشة، لكن الرهان على بقائه في مكانه ليس مطلقا، وربما نشهد مستقبلا تحولا قادرا على التأثير بفعالية أكثر على مجريات الصراع.