لأول مرة أدرك ان المساحة التي تفصلني عن نفسي تتجاوز المعقول، فعندما تصدر فتوى بعدم مغادرة البشير للسودان ثم يغادرها، أقف مذهولة من الثقافة التي تحكمنا، أو من الشرعية التي نحاول خلقها ثم نخرقها، وكأن مبررات حياتنا تقف على الماضي والتراث المسفوح أمامنا كل لحظة بحجة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فما بين نفسي التراثية وصورتي في الحدث اليومي تناقضات المعرفة والعشق والدخول في أزياء بدأت تضيق علي أو تصبح فضفاضة، لكنني أرتديها بحكم "سلطة المجتمع"، أو المراجع المعرفية التي تستهلك أصواتها داخل ثقافة تبدو عبثية.

هناك معرفة ملتصقة بمؤخراتنا، فلا نستطيع التحرك دون اعتبار اننا مثقلون بها، وأنها تشكل "سلطة اجتماعية" يمارسها أي فرد بحكم ثقافة المشافهة التي تكرس "صرامة عقلية" مبتذلة، تجعل من كل القيم مادة هلامية قادرة على التحرك وفق هذه السلطة، وربما من المتعب السؤال عمن يكرس هذه "السلطة" أو من هم الذين يحرسونها ليل نهار!! لكنني في النهاية ربما أستطيع توصيف "المشافهة" التي لا تدع مساحة للتفكير، وتجعل الجميع مرتاحون لمسيرة الحياة التي تحكمها هذه السلطة، فمع كم التناقضات التي تحملها "خطب المشافهة" و "دعاة المشافهة"، والرسائل بالاتجاه الواحد فإنني لن أعجز عن التفكير بصعوبة تحليل هذا النوع من الخطاب المكرر بصياغات بلاغية تغرقنا بتفاسير اللغة، ثم تتركنا مذهولين من كم "المعلومات" التي تنهال من الشفاه علينا.

المشافهة تفكير يحدد "نمط" السلوك في كثير من الأحيان، وهو يجعل "المعرفة السهلة" والمتوفرة من الأجداد إلى الأبناء مادة لتمسك بقيم أخلاقية لا هي من الدين ولا حتى من الغرب، وتخلق أعداء افتراضيين يتجسدون في أي خروج عن سكونية القبر التي تحكم قناعاتنا، وفي النهاية سنجد بلا شك "قرصا مدمجا" واحدا على الأقل يعطينا الشرعية للتمسك بما نؤمن به، أو برنامجا فضائيا يخوض بنا في بحر تاريخ النبوة والصحابة ليخرج بـ"شاهد" واحد نستطيع عبره تبرير ما نحن فيه....

لم أكن أتوقع يوما أن التقنيات ستصبح مساحة للجمود بدلا من أن تكون أداة تغيير اجتماعي، ولم تكن الفضائيات ضمن استشراف المفكرين وأنها ستتحول إلى أداة مشافهة بدء من "دراما الفولكلور" التي صاغت التراث وفق "الأهواء" المعاصرة وانتهاء بتحولها إلى منبر لا يختلف عن منابر المساجد سوى بنوعية الجهد المطلوب من المستمع، فالمساجد ودور العبادة أماكن تواصل اجتماعي، أما جمهور السميعة في المنازل والحافلات فهم محرمون من غايات "المعرفة الاجتماعية" التي يفرضها التواصل القديم.

معرفة "يا سامعين الصوت" محبطة لأنها في النهاية تختزل الحياة بتكرار الجمل البلاغية وبالدهشة التي تعلو "جمهورا" بدأ يشكل ظاهرة فريدة....