هو الوحيد الذي يملك جغرافية وتاريخ، لأنه ينتقل بعيدا عن السياسة إلى ذاكرة مختلفة تختزن حرارة البشر أو قدرتهم على تجسيد المجرد بشكل سريع، ورغم أن أحدا لم يتوقع أن يظهر هذا اليوم داخل أروقة القمة لكنه ربما يبقى أكثر وضوحا من "التوصيات" الهلامية التي ظهرت بعد "اختصار" القمة.

وحتى لا يبقى ذكرى فقط على مساحة تاريخنا المعاصر فإن حجزه في المساحة الفلسطينية فقط يجعله "حدثا" استثنائيا في وقت ربما تحتاج المجتمعات العربية إلى تجسيده من جديد في تفاصيل حياتها بعد أن شكلت "الهجرة" و "اللجوء" وحتى التعامل مع الأرض وكأنها "مضارب" صورة معاكسة لكل التوقعات الخاصة بنا كـ"بناة" حضارة، فعندما نحاول نقله إلى أبعاده الثقافية فإنه سيحمل بكل تأكيد عوامل إضافية ربما يبقى عامل الاحتلال الأقوى بينها لكن ما تبقى هو الذي سيدفع إلى مسألة المقاومة.

في البعد الثقافي فإن كل المفاهيم الحديثة ظهرت بناء على الانتماء للأرض، فالدولة والمواطنة والحقوق والواجبات لم تكن لتظهر مع "المواطن التائه" الذي يتحرك على جغرافيته دون انتماء واضح يضع علاقة صريحة ما بين المجتمع والأرض ويعيد تحديد المصلحة والإرادة التي تحكم العلاقة. فما حدث في فلسطين عمليا عام 1976 لم يكن فقط استشهاد مجموعة المواطنين، أو قطع مجموعة من الأشجار، بل هو أيضا ثقافة جديدة تقدم وعيا كاملا لمسألة الهوية والانتماء في ظل الاحتلال.

وفي البعد الثقافي فإن "الأرض" التي تحدد الوجود هي ليست جغرافية يمكن استبدالها، فالحداثة أعطت حالة ارتباط جديدة في مسألة الأرض بعيدا عن "الانتماءات" الأضيق التي شكل مراحل ما قبل الدولة وما قبل القومية... فيوم الأرض انطلق فيما يعرف بأراضي 48، وعمليا فإن "الجنسية الإسرائيلية" لم تشكل أي محطة للفلسطينيين الذين أعلنوا تمسكهم بأرضهم بكل ما تعنيه من انتماء وهوية.

المعنى العام اليوم مرتبط بالأرض والهوية، على الأخص أنهما من منسيات السياسة العربية، وهما أيضا خارج الإطار الذي تنعقد له القمم، لكنهما رسما مساحة مختلفة تبدو أكثر وضوحا عند الشعب الفلسطيني الذي حوصر في غزة ولم يتحرك من مدنه او قراه رغم كل همجية الحرب، وهي صورة جديدة تقابل صور اللاجئين في حرب احتلال فلسطين التي يبدو أنها لن تتكرر.

ثقافة الأرض من جديد ستدخل مسرح الحياة الاجتماعية داخل كل الدول العربية طالما ان النظام الرسمي يبحر خارج الوجود والهوية، ويرسم العالم العربي ككتل سكانية متنافرة، لكن في النهاية فإن مسألة "الأرض" تشكل مدخلا ثقافيا وفكريا لتكريس كل مفاهيم الحداثة ابتداء من المواطنة ووصولا إلى القومية والدولة...