التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الإسرائيلي إفيغدور ليبرمان لم تكن مفاجئة لأنها تأتي في سياق منسجم مع "تاريخه السياسي القصير" في حلبة السياسة الإسرائيلية، وهي أيضاً لا تحيد أبداً عن تصريحاته قبل أن يكون وزيراً للخارجية.. ليبرمان الذي يعتز بتطرفه ويفاخر به، لن يخيب أمل أحداً، لا من مناصريه ولا من خصومه "زيفاً" الإسرائيليين، حتى إنه لن يخيب أمل أعدائه من العرب وغير العرب، لأنه نموذج لما يمكن أن ينتجه الشارع الإسرائيلي بكل تأكيد.
التجربة مع حكومات إسرائيلية سابقة تثبت أن ليبرمان لا يختلف عن غيره إلا بأنه أكثر تشدداً وعنصرية، وهذا لا يلغي بطبيعة الحال تشدد وعنصرية الآخرين ممن يشاركونه الحكومة الحالية أو ما قبلها، من الليكود أو العمل أو كاديما أو شاس، بل إنه بالإمكان تسجيل حقيقة أن ليبرمان أكثر صراحة ووضوحاً ووقاحة من باقي زملائه، فهو لا يعتمد سياسة التسويف ولا المواربة، إنما يعلن موقفه العنصري بالفم الملآن، ويطالب الحكومة الإسرائيلية الحالية بأن تتبناه كما كان يطالب سابقاتها.
من السذاجة أن ينتظر أحد من ليبرمان موقفاً ليّناً أو موقفاً دبلوماسياً كسياسي محترف يتقن المداهنة والقفز في ميدان السياسة، لأنه قبل تسلمه حقيبة الخارجية وبعده لا ينفك يطالب الجميع بتبني برنامجه السياسي التالي:
ـ اقتلوا أو اطردوا فلسطينيي 1948 ..
ـ لن يتحقق السلام إلا مقابل السلام..
ـ لا انسحاب إسرائيلي من هضبة الجولان..
ـ من الضروري الاستمرار في عملية الاستيطان..
ـ لا قرار لدى الحكومة الإسرائيلية بشأن المفاوضات السورية..
ـ رفض كل ما تمخض عنه مؤتمر أنابوليس.. "المتهالك أساساً!"..
ـ إسرائيل ليست ملزمة بأي اتفاق مع الفلسطينيين إلا خارطة الطريق.. "الميتة سريرياً!"..
السؤال هنا: ما الذي يختلف فيه ليبرمان عمن سبقه من وزراء خارجية أو رؤساء حكومة إسرائيليين منذ مؤتمر مدريد عام 1991 حتى اليوم؟!!.. الجواب ببساطة: لا يختلف بشيء إلا في امتلاكه الجرأة والوقاحة للإعلان عن الموقف الإسرائيلي على عكس أترابه الذين يحذون حذوه ولكن دون إعلان صريح.. والنتيجة واحدة!. سؤال آخر: هل أقدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة "قبل ليبرمان" على اتخاذ خطوات إيجابية على الأرض من شأنها حلحلة عملية التسوية في المنطقة؟!.. الجواب ببساطة أيضاً: لا..!.
إذاً، فإن وجود ليبرمان في الحكومة الإسرائيلية أو عدم وجوده لا يغير في واقع الحال شيئاً، بل على العكس من ذلك إن وجوده على الأرجح يحرج الحكومة الإسرائيلية حين يكشف بتصريحاته عن وجهها الحقيقي، وربما أيضاً يحرج الساسة الإسرائيليين وقواعدهم في الشارع الإسرائيلي التي تنجب قيادات على شاكلة ليبرمان انطلاقاً من المبدأ "الإناء بما فيه ينضح"!!. وفوق هذا كله يحرج القوى الدولية الداعمة لإسرائيل التي لا تألو جهداً في إلباس إسرائيل وحكومتها لبوس النعجة التي لا تطلب شيئاً سوى أن "تقضم من أراضي غيرها بسلام"!!.
التهويل والتطبيل والتزمير لتصريحات ليبرمان العنصرية يبدو أنه خطأ سياسي وإعلامي فادح لسببين. أولاً: يكرّس فكرة أن ليبرمان يشكل استثناءً بين القادة الإسرائيليين، وحالة إسرائيلية مختلفة، وهذا ما يتناقض كلياً مع الواقع السياسي الإسرائيلي. ثانياً: يروّج لكذبة كبيرة اسمها "الصقور والحمائم" أو يروّج لفكرة ـ كذبة تشبهها، ربما سيتحفنا بها الساسة الإسرائيليون لاحقاً، ما يعني إظهار المتشدد والعنصري "نتنياهو كمثال" بمظهر الحمامة الوديعة إذا ما تمت مقارنته بالأكثر تشدداً وعنصرية "ليبرمان كمثال أيضاً"!.
صراحة ليبرمان الواصلة حدّ الوقاحة في إعلان عنصريته، ومواقفه "غير الملتبسة" التي لا تعصى على التفسير ولا تحتاج إلى أكثر من تأويل، تبدو مفيدة لأنها تقدم الصورة والوجه الحقيقيين للقادة الإسرائيليين، وهي "خدمة" يسديها ليبرمان لأعدائه بالمجان، لأنهم لن يضطروا، بوجوده، إلى بذل الجهد ـ على أقل تقدير إعلامياً ـ من أجل إثبات عنصرية إسرائيل وإقناع العالم بها!.
ليطلق ليبرمان ما يشاء من تصريحات ومواقف، ففي هذا تأكيد على أن الملمس الناعم الذي تحاول الحكومات الإسرائيلية الظهور به أمام العالم هو أشبه ما يكون بنعومة جلد الأفعى الذي لا يمكن له أن يخفي سمّها!!.