لم يكن واضحا منذ قمة الكويت البنود الأساسية لما طرحه العاهل السعودي حول مسألة المصالحة، ورغم أن الحدث السياسي كان أسرع من أي محاولة لوضع هذا الموضوع في إطاره الكامل، لكن الحركة الدبلوماسية ربما انتهت مع انعقاد قمة الدوحة التي قدمت صورة متناقضة لمسألة "الخلافات" العربية، فالدعوة السعودية أساسا لم تأت من فراغ لأنها انطلقت من تداخل ظرفين السياسيين: الأول هو بداية إدارة أمريكية جديدة، والثاني دخول العدو الإسرائيلي مرحلة سياسية بعد الحرب على غزة واقتراب "الانتخابات الإسرائيلية".
عمليا فإن التحرك السياسي بعد قمة الكويت يشير أساسا إلى أن ما حدث هو البحث عن "علاقات تصالحية" مرتبطة أساسا بالنظام العربي الرسمي وليس البحث عن تضامن استراتيجي، أو إيجاد أهداف أكثر وضوحا تجاه الصراع مع "إسرائيل" أو حتى باقي الأزمات المتفرعة عنه، والملاحظ خلال قمة الدوحة أن دمشق على سبيل المثال بقيت مستمرة بنظرتها لمستقبل المنطقة إجمالا، وأكد الرئيس بشار الأسد في كلمته خلال افتتاح القمة على عدم وجود أي تحول جديد في إطار "التسوية" أو حتى دعم المقاومة، لكن هذه الصورة لم تنعكس بوضوح في أعمال القمة، وبقي شأن التصالح صورة أشبه بـ"تدوير الأزمات" بدل من مواجهتها، فالواقع العربي بصورته القائمة يقدم ثلاث مؤشرات أساسية:
– الأولى هو أن المصالحة كعنوان سياسي لا تعني الدخول في مرحلة جديدة، بل على العكس إغلاق الباب أمام أي تحول يمكن أن يهز النظام العربي الرسمي، أو يعيد صياغة التوازنات الإقليمية وعلى الأخص في شرقي العالم العربي بشكل جديد.
– الثاني أن النظام العربي سيبقى متفقا على تثبيت صورته الحالية ككتل جغرافية تتفاوت إستراتيجيتها رغم تشابه أزماتها، ويبدو أن "عصبية" هذا النظام فقدت توجهها الحقيقي بعد أن انهارت قضاياه بالتدريج بدء من المسألة الفلسطينية وانتهاء بموضوع الصحراء الغربية، فكل أزماته "مدولة"، وخاضعة للشرط الدولي أو للمبادرات التي تطرح من خارج النظام العربي.
– الثالث تعاملات الدول العربية على مستوى مصالح شعوبها تشتت باتجاهات مختلفة، فرغم كل المعاهدات الاقتصادية فإن مصالح المجتمعات سارت خارج إطار الهدف الأساسي لأي اتفاقات عربية اقتصادية على الأقل، فتعامل النظام العربي بعيدا عن السياسي كان في النهاية يعبر عن "إدارة اقتصاد نظم سياسية" أكثر من كونه مجالا مفتوحا لتطوير تكامل اقتصادي على مستوى القاعدة الاجتماعية.
ربما تبدو هذه المؤشرات الثلاث أكثر وضوحا في مثلث الأزمات "الشرق أوسطي"، وعلى الأخص في تجربة السنوات الثماني الماضي التي حملت دمشق وأنقرة وطهران على تطوير "علاقات تقنية" ليست مجردة عن السياسة لكنها على الأقل تملك هامشا من تطوير ذاتها في ظل أزمات حقيقية هزت الشرق الأوسط قبل احتلال العراق وبعده، وهذا الموضوع كان في دائرة الضوء عندما انتقل إلى المجال السياسي خلال فترتين: الأولى هي في العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006 الذي أراد حسب تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك كوندليزا رايس الدخول في "مخاض لشرق أوسط جديد"، حيث كان من المفترض أن تتحول العلاقات الإقليمية باتجاه جديد، وبالطبع فإن هذا التحول ليس مقصودا منه السعودية أو مصر أو حتى إمارات الخليج، بل الدول الأخرى مثل سورية وإيران وتركية.
الفترة الثانية كانت خلال الحرب على غزة وما تبعها خلال تغير الإدارة الأمريكية، لأن هذا الحدث كان مسبوقا بتطور مهم آخر هو الرعاية التركية للمفاوضات غير المباشرة بين سورية و "إسرائيل"، وخلال الحرب ظهر الموقف التركي أكثر وضوحا ومبدأية من بعض الدول العربية، وهو نتيجة منطقية لواقع إقليمي كان يتطور سريعا حتى ولو لم يصل إلى مرحلة "التحالف" أو "النظام البديل"، لكنه على مستوى العمق السياسي فإنه شكل نقلة نوعية في إيجاد توازن إقليمي يحد من المخاطر التي فرضتها "الحروب الاستباقية".
من هنا يمكن أن نفهم التركيز اليوم على مسألة الانفتاح على سورية والشروط التي ظهرت على الأقل في التحليلات الأمريكية، فمسألة العلاقة مع طهران ليست بعيدة عن مجمل التوجه الذي سيصل إلى عواصم أخرى مثل أنقرة أو بغداد، فالآلية التي سارت عليها العلاقات الإقليمية مع دمشق لم تكن فقط بفعل التنسيق مع طهران فقط، فالأهم كان نوعية التوازن الذي على ما يبدو متفق عليه بين العواصم الثلاث، وربما علينا ملاحظة أن الوضع العراقي وطرق التعامل معه شكل محورا خاصا حتى في طبيعة العلاقات الاقتصادية التي ربطت دمشق مع بغداد، ففي ذروة الأزمة وعندما كان وزير الدفاع العراقي الأسبق حازم الشعلان يصب تصريحاته ضد سورية، فإن آلية العلاقة مع بغداد لم تتغير وهو أمر جديد بالنسبة للعلاقات في المنطقة.
من جانب آخر فإن ظهور الإدارة الأمريكية الجديدة فتح مجال "التخمين" أو "الظن" حول مسألة العلاقة مع سورية، وبات واضحا أن طرح المصالحة العربية ليس منفصلا عن هذا الموضوع، وخلال أسابيع تبدلت "الصورة الذهنية" لسورية داخل الكثير من وسائل لإعلام العربية على وجه التحديد من "العزلة" باتجاه "الصراع على سورية" وليس الانفتاح عليها، فالتحليلات كانت تتجه نحو الدور السوري والتجاذبات التي تعصف به، وذهب البعض لمقاربة ما يجري بمراحل الخمسينيات من القرن الماضي، لكن المسألة أعقد بكثير من استرجاع مرحلة تاريخية، أو قياس ما يحدث اليوم ببعض التطورات في التاريخ المعاصر للشرق الأوسط، ويمكن أن يكون هناك قراءة المعادلة السورية وفق المعطيات الجديدة اعتمادا على أمرين:
الأول أن دمشق أكدت على مسألة العلاقة مع طهران، معتبرة أنها خارج أي مساومة سياسية قادمة، حتى في مسألة المصالحة العربية فإن كلام الرئيس الأسد في قمة الدوحة أشار إلى مسألة "خلق عدو بديل". لكن دمشق لم تكن مضطرة لنفس الحديث بشأن علاقتها مع أنقرة علما أن الدور التركي والإيراني هما مجال إشكال حقيقي داخل النظام العربي لسبب مرتبط مباشرة بعلاقتهما بصراع مع "إسرائيل"، الذي أنتج توازنا خاصا ما بين دمشق وأنقرة وطهران، وآفاق هذا التوازن يتم وضعها في مواجهة "النظام العربي"، لكنها في النهاية تقوم بـ"سد الفراغ" الذي أنتجه عدم قدرة هذا النظام على التعامل بإستراتيجية واضحة مع هذا الخطر، فأي تجمع إقليمي جديد باتجاه الجناح الشرقي الخاص بفلسطين تفرضه مصالح إستراتيجية تهم هذه الدول التي تتأثر مباشرة بعدم الاستقرار الذي تفرضه إسرائيل، فإذا كان المطلوب مستقبلا السير بالمصالحة على شاكلتها الحالية، فإن المثلث السوري - الإيراني - التركي سيبدو ضرورة إستراتيجية على الأقل لفرض توازن مع التوترات التي تفرضها "إسرائيل".
الثاني نجاح العلاقات التقنية بين سورية وتركية، وبين سورية وإيران وقدرة الدول الثلاث على إدارة عدد كبير من الأزمات المرتبطة بها مباشرة ربما يعود إلى نوعية المصالحة التي ظهرت بشكل سريع بينهما، فالاستثمار التركي والإيراني في سورية على الأقل مختلف نوعيا عما أتاحته البيئة الاستثمارية العربية، وإذا كان هناك خصوصية في العلاقات ما بين أنقرة ودمشق نتيجة الجوار الجغرافي، جعلت من الجانب التنموي على الحدود بينهما أساسيا، فإنه بالنسبة لإيران ظهر ضمن شراكة اقتصادية واضحة شكلت محاور متعددة. وفي كلا الحالتين فإن العلاقات التقنية بين هذه الدول نشأت بعيدا عن المشاريع الأوروبية الكبيرة، لكنها في نفس الوقت، على الأخص مع تركيا، كانت ضرورية للدخول في استثمارات أكبر مع الجانب الأوروبي، وتطويرها يبدو اليوم ضروريا لكي لا تقف عند شكل نمطي واحد.
المصالحة العربية في النهاية تسير باتجاهات مختلفة، وهي تملك إرثا سياسيا ربما من الصعب تجاوزه بمبادرات سريعة أو مبتسرة، وتفسير أي اتجاهات إقليمية جديدة داخل المعادلة السورية لا يبدو ضروريا بقدر أهمية دعم توازن إقليمي في زمن لم تتضح ملامحه العامة، فسورية عندما تتجه شرقا لا تخرج عن "النظام العربي الرسمي"، لكنها تحقق على مستوى الصراع مع إسرائيل عمقا جديدا ونوعيا وبعيدا عن تقلبات السياسات العربية.