خرجت قمة العشرين بنتائج جاءت بمجملها لحماية النظام الراسمالي العالمي من الانهيار ، فبعد ان تخيلنا بان الاعضاء الاثني عشر المتممين لدول الثمانية ، سيكون لهم الشان الابرز في رسم الخريطة الجديدة للاقتصاد العالمي الجديد ، يبدو بان الجميع قد اتفق الآن على تأجيل الزعامة على هذا النظام الى ما بعد انقاذه ، فالتهافت عليه وهو في عنق الزجاجة ليس بالامر المنطقي للكثيرون ، والا بماذا نفسر مئات المليارات من الدولارات التي أقرت مجموعة العشرين صرفها لتصحيح أخطاء النظام المالي السابق ولمعالجة ما يمكن معالجته من آثار الاعصار المالي المرعب ، والتي رحبت بها سريعا دول الثمان وأغنيائها قبل الدول النامية جميعا ، كيف لا والملياردير العالمي المعروف سوروس راى فيها نقطة تحول ايجابية نحو معالجة الآثار الحالية .
فان ينتج عن اجراءات الاجتماع انفاقات وصلت قيمتها الاجمالية الى 1100 مليار دولار امريكي ’ اي اكثر من مليون مليون دولار ’ يعني بالتاكيد بان حكومات الدول قد اتحدت لمواجهة النتائج الحالية في موجة الكساد التي تجتاح العالم بضخ مليارات الدولارات لتنشيط الاقتصاد والتجارة بين البلدان ، ولكن ’ وللاسف ’ بنفس الآليات والمؤسسات السابقة ،عبر وضع صندوق النقد الدولي عبر راس المؤسسات التي ستدير الأزمة ’ من خلال مضاعفة موارده بمقدار 200% في سابقة هي الاولى منذ انشائه ’ ، بعيدا عن البحث عن جوهر المشكلة الذي أضحى معروفا للكثيرين في الفوضى التي يعيشها النظام الاقتصادي الحالي ومن خلفه النظام المالي العالمي القائم على زعامة الدولار الامريكي وتربعه على عرش المعاملات الدولية وما خلفه ذلك من نهب مستمر لثروات العالم على مر العقود الست الماضية في سبيل ارضاء رفاهية وبذر المواطن الامريكي ، والذي توضحت نتائجه في العجوزات التاريخية والقياسية في ميزان مدفوعات بلاده .
ولكي نفهم كيف انتهت بنا الحال إلى الفوضى الاقتصادية التي نعيشها الآن، فإن الشروح المعقدة بشأن المشتقات المالية والفشل التنظيمي، وما إلى ذلك، لن تفيدنا كثيراً ، ولذلك سنستعين بالاجابة التي نشرت في الخليج الاماراتية لـ دانييل كلاود - أستاذ الفلسفة بجامعة برينستون في مقالته تحت عنوان الراسمالية العليمة ، هذه الإجابة التي رآها الباحث بالمثلى والقديمة تتلخص في كلمة واحدة الاو هي : الغطرسة .
ففي ظل النظم الاقتصادية الحسابية الحديثة’ والكلام للباحث ’ قرر العديد من الناس في بلدان العالم الغني أننا قد نجحنا أخيراً في ابتكار مجموعة من الأدوات العلمية القادرة حقاً على التنبؤ بالسلوك البشري . وكان من المفترض في هذه الأدوات أن تكون جديرة بالثقة كتلك الأدوات المستخدمة في الهندسة . فبعد أن شيعنا الاشتراكية العلمية إلى مثواها الأخيرة مع نهاية الحرب الباردة، سرعان ما وجدنا أنفسنا وقد اعتنقنا علماً آخر من علوم الإنسان .
إن العامل الذي أدى حقاً إلى تغيير وجه الاقتصاد على النحو الذي أدى إلى الكارثة يتلخص في حقيقة بسيطة مفادها أننا لا نستطيع في السياق الاقتصادي أن نصرح بأمور معينة علناً . لقد تصور البعض منا أن التاريخ قد انتهى حقاً . ولكننا في النهاية لا نستطيع أن نتوصل إلى مجتمع مثالي نهائي دون أن نستعين بنظرية علمية نهائية ثابتة فيما يتصل بالسلوك البشري، فضلاً عن ضرورة إشراف بعض العلماء أو الفلاسفة المجانين على الأمر برمته .
والمشكلة هنا أنه مهما كانت صياغة هذه المعتقدات ’’علمية’’، فإنها ما تزال زائفة . فالرأسمالية عبارة عن صراع دائر بين أفراد طلباً للفوز بالسيطرة على الموارد النادرة . والأمر مثل الملاكمة أو البوكر، فهو عبارة عن حرب خاصة مقيدة .
كان نشوء الفقاعات الضخمة في العقود الأخيرة راجعاً في جزء منه إلى شيوع واستحالة إصلاح الاعتقاد بأن لا شيء من هذا القبيل قد يحدث أبداً . وبالرغم من ذلك فقد بدأ الاقتصاديون على مدار السنوات العشرين الماضية يتصرفون وكأننا أصبحنا نتصور حقاً أننا قادرون على التنبؤ بالمستقبل الاقتصادي ، كنا حريصين دوماً على إنقاذ الفقاعات، ولكننا لم نتعمد تفجيرها قط . ونتيجة لهذا فقد تحولت أسواقنا المالية إلى مخطط هرمي . وكنا نتصور أن المخاطر الأخلاقية من الممكن تجاهلها بأمان، لأنها ببساطة “أخلاقية”، أي أنها، كما يدرك أي عالم حقيقي، “وهمية” .
ولكن السوق ليست صاروخاً، وخبراء الاقتصاد ليسوا علماء صواريخ، والمخاطر الأخلاقية في الشئون البشرية تشكل الخطر الأعظم أهمية . وكان اعتقادنا الزائف في قدرتنا الجمعية على رؤية المستقبل بالاستعانة بالعلم سبباً في دفعنا إلى بذل مختلف الوعود الملزمة بشأن أمور لا يستطيع إنسان أن يضمنها بأي حال من الأحوال . والوعد بشيء نعرف أن ضمانه أمر مستحيل يُعرَف أيضاً بالكذب . والآن بدأ هذا النسيج الضخم من الأكاذيب في تمزيق نفسه بنفسه .
إن الحكومات تتصور أننا قادرون على إيقاف هذه العملية عن طريق إغراقها بالمال، ولكن هناك العديد من الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن هذه المحاولات لن يكتب لها النجاح . فربما تجاوز النظام المصرفي بالفعل مرحلة الإنقاذ ذلك أن العديد من المؤسسات المصرفية لم تعد بنوكاً ببساطة، بل لقد تحولت إلى تجارب ضخمة لم تسفر عن النتائج التي كانت متوقعة منها .
نستطيع بسهولة أن نستمر في محاولاتنا لتحفيز وإنقاذ الاقتصاد لمدة طويلة، وعلى النحو الذي لن يؤدي إلا إلى تعطيل أو تأخير التعديل المطلوب، قبل أن نضطر في النهاية إلى السماح بوقوع الدمار الخلاق . ولكن هذه ليست المشكلة الحقيقية . فالمشكلة الحقيقية تكمن في الإيديولوجية العلمية الزائفة التي كانت وراء أزمة اليوم .
ونزيد : في الطريقة البائسة’ الى اليوم ’ في التعامل معها ، والتي ’ وحسب رأينا ’ ان لم يتداركها العالم وشاءت الاقدار ان تمر دون سقوط النظام العالمي ، فان فقاعتها الهائلة ستصل الى درجة من الهشاشة قد تسقط معها نظم سياسية ومجتمعات طالما تعودنا على وجودها في خارطتنا المعروفة .