زحمة القمم الثنائية والمصغرة والموسعة العربية منها والعربية ـ اللاتينية والأوروبية ـ الأمريكية والدولية التي شهدها العالم منذ أشهر قليلة والمتزامنة مع وصول باراك أوباما إلى الرئاسة الأمريكية، تدعو إلى استحضار السؤال: ما الذي يجري في العالم، وما سرّ هذا الخروج "النظري" الآمن لكل القمم والمؤتمرات، وما الغاية من وراء سيادة مناخات الهدوء التي رافقها خطاب سياسي دولي هادئ أيضاً وعلى أكثر من مستوى؟!.

لا شك أن التوجه الجديد للإدارة الأمريكية الذي جاء بعد مخاض طويل استمر ثماني سنوات من حكم الرئيس السابق جورج بوش، قد ساهم في ضبط الإيقاع السياسي في العالم حتى اللحظة. فخطابات الرئيس أوباما وإطلالاته الإعلامية تبدو اليوم في مجملها بعيدة عن الاستفزاز السياسي وبعيدة أيضاً عن منطق رجل الكاوبوي المتهور والمغامر الذي أتعب العالم وأنهكه خلال السنوات الماضية.

وإذا كان الهدوء المطلوب تعميمه حالياً قد نجح إلى حدود مقبولة بحيث أصبح السمة الأساسية للخطاب السياسي خلال الأشهر القليلة الماضية، فهذا لا يعني بالضرورة أن يظل الهدوء وضبط الإيقاع سمتان أساسيتان للفترة المقبلة لأن حجم ما هو متراكم من أزمات وملفات تحت السطح السياسي الدولي الهادئ حالياً، لا يمكن له أن يظل متوائماً مع ما يطفو على ذلك السطح من ابتسامات ومصافحات وتلويح بالأيدي وصور تذكارية ومداخلات هادئة توحي بأن العالم لم يكن يفتقد إلا إلى بعض من القبلات وخطب المديح والغزل السياسي!.

ثمة ما يثير الدهشة فيما يحصل عالمياً اليوم، فالمظهر الخارجي للقمم والمؤتمرات والخطابات والمنتديات يقود إلى انطباع زائف يُظهر العالم وكأنه بألف خير، إلا من بعض الأزمات هنا وهناك التي يمكنها أن تمنح المشهد السياسي الدولي شيئاً من النكهة والإثارة لا أكثر ولا أقل!!. في حين أن واقع الحال عكس ذلك تماماً وهذا ما يدركه كل المشتغلين في الحقل السياسي العام الدولي والإقليمي.

الحراك السياسي الدولي الهادئ و"الرصين" يبدو اليوم وكأنه يغرد في وادٍ، في مقابل بقاء الأزمات عالقة في وادٍ آخر كجمر متّقد تغطيه طبقة من الرماد يمكنها أن تحجب حرارته ولو بصورة مؤقتة ولكنها لا تستطيع أن تطفئ جذوته أو تخمد نيرانه التي لا بد ستطفو فوق السطح باشتعال ربما أشد وأقسى مما كانت عليه في السابق، في حال اكتشف العالم بأسره وخصوصاً المتضررين وأصحاب الحقوق أن التهدئة المطلوبة، أمريكياً وأوروبياً، لم تكن سوى مجرد بيع وهمي للأحلام والأمنيات بعالم أكثر عدلاً وأكثر إنصافاً.

الكثير من المراقبين السياسيين والمحللين والمتابعين يصفون ما يجري اليوم في العالم بأنه هدوء ما قبل العاصفة.. لكن أحداً منهم لا يستطيع حتى الآن قراءة طبيعة هذه العاصفة، هل هي عاصفة ستؤدي إلى مزيد من الأزمات وإلى مزيد من تعقيد الملفات العصية على الحل أساساً، أم إنها عاصفة تحمل معها بشائر الولوج في عمق الأزمات وتفكيكها وتحليلها والتعاطي معها بالذهنية الجديدة المفترضة ـ أمريكياً وأوروبياً ـ والتي ما تزال حتى اللحظة تسبح في الفضاء النظري غير المحسوس الذي لا بد وأن يكون له عمراً زمنياً افتراضياً، تنكشف بانقضائه الغاية الحقيقية من هذا الهدوء وتزول معه الدهشة بالتزامن مع انكشاف شكل ونوعية العاصفة التي يترقبها العالم بأسره.

ما من شك في أن عالم اليوم قد أجهده الخضوع الدائم لمنطق الغوص في المساحات الرمادية الضبابية، وأنهكه منطق الانتظار والرزوح تحت وطأة الاحتمالات والتوقعات التي تطول وتطول إلى حدود تشتيت الأزمات وتضييع ملامحها وتفريغها من مضامينها، وبالتالي إبقاؤها معلقة بين الأرض والسماء، ما يتيح المجال واسعاً لاستمرار بيع الأحلام والأمنيات أمام وسائل الإعلام وعدسات الكاميرات على هيئة تصريحات وخطابات وابتسامات لا تسمن ولا تغني عن جوع!!.